رام الله – تقرير خاص :
"لم أتخيّل يوماً أنني سأزور غزة ... للسجن فائدة كبيرة ... ظننت في ذلك اليوم أنّ شوقي لرؤية غزة كاد يوازيه شوقي لزوجي الذي لم أشاهده منذ ما يزيد عن العام و نصف" .. هكذا أتى صوت أم خالد على الهاتف ، ملؤه التفاؤل و الرضا ...
كان وليد خالد من قرية اسكاكا شرق مدينة سلفيت قد اعتقل للمرة الأخيرة في الثلاثين من تموز عام 2001 ، بعد هذا التاريخ بثلاثة أشهر حياة جديدة بدأت في غيابه ، و في تلك الأيام كان أبو خالد كما يحب أن ينادى ينتهي من فترة تحقيق طويلة امتدت لأكثر من شهرين و نصف في مكانٍ لم تتعرف عليه العائلة ، "ولدت ولاء أخيراً ..." أوصل له أهله الخبر إلى معتقل مجدو حيث تم تحويله لاحقاً ...
ثلة من الأولين ...
بدأت رحلة أبو خالد مع الاعتقال منذ بداية التسعينيات حيث اعتقل للمرة الأولى في الحادي و العشرين من نيسان عام 93 عندما كان طالباً بكلية الهندسة في جامعة النجاح الوطنية ، كانت تهمته التي واجهها آنذاك إيواء زاهر جبارين مؤسس كتائب القسام في شمال الضفة الغربية ، ثمانية أشهر كانت بداية الرحلة التي ستستغرق سنين فيما بعد ، و خلالها ستتبلور شخصية وليد أبو خالد فيما بعد ، في تشرين أول 94 أفرج عن أبو خالد و عاد لجامعته التي رافق مسيرته فيها مجموعة متميزة في العمل الجهادي أثرت في حياة وليد حتى اليوم ، و كان من بينهم عبد الناصر عيسى تلميذ يحيى عياش المخلص كما وصف يومها ، و الذي يقضي حكماً بالمؤبد في سجون الاحتلال ، و كذلك الأسير معاذ بلال المحكوم 26 مؤبّداً ، إلى جانب الشهيد فهيم دوابشة .
داعية ... حتى بين الجنائيين :
ثلاثة أشهر فقط بعد الإفراج الأول و كان وليد يواجه اعتقالاً جديداً في منتصف كانون ثاني 95 حيث تم تحويله للاعتقال الإداري لمدة خمسة أشهر هذه المرة ، و في حزيران من ذات العام عاد وليد للالتحاق بجامعته مرة أخرى ، لم يلبث سوى ثلاثة أشهر أخرى و كان الاعتقال الإداري يشهر في وجهه ثلاثة أشهر جديدة في أيلول 95 ، و في نهاية حكمه الجديد قامت سلطات الاحتلال بتحويله للمحكمة العسكرية و أصدرت بحقه حكماً لمدة عشر سنوات ، و من ثم اقتيد مع مجموعة من الشبان المعتقلين إلى أحد السجون المدنية حيث يتم احتجاز سجناء جنائيين من اليهود ، و قد استطاع وليد و رفاقه في تلك الفترة و بالرغم من ظروف السجن القاسية إقناع أحد المحتجزين الدروز باعتناق الإسلام ، و بالفعل قام المعتقل آنذاك بإشهار إسلامه داخل السجن ، مما حدا بإدارة المعتقل بنقل وليد و رفاقه إلى قسم الأسرى الأمنيين لمنع تأثيرهم على المحتجزين الجنائيين .
في تلك الفترة تروي زوجته : " بدأت معالم الشخصية الهادئة المثقفة و المتزنة تظهر على ( أبو خالد ) ، حيث استطاع و من سجنه الاتصال مع عادل عوض الله القيادي البارز في كتائب القسام ، و الذي اغتالته القوات الصهيونيّة لاحقاً ، لكن إدارة السجن استطاعت كشف الأمر و قامت بتحويل وليد مرة أخرى للتحقيق و من ثم للمحاكمة حيث أضيف لفترة حكمه الأولى عامين آخرين " ...
لم يكن أمام وليد أبو خالد سوى الأمل ، و استهلاك الساعات في القراءة ... بعد أقل من خمس سنوات و في تشرين أول 2000 كان من بين المفرج عنهم بعد أن استطاع محاميه استغلال ثغرة في القانون الصهيونيّ لصالحه ، على أبواب الحرية كان أبو خالد قد أنهى دراسته الجامعية أثناء احتجازه بعد أن انتسب لإحدى الجامعات الأمريكيّة في واشنطن و قد نال درجة البكالوريوس في الإدارة .
خطبة معلقة ...
بعد الإفراج عنه بدأ أبو خالد العمل في إحدى المكاتب التجارية في مدينة نابلس ، و لم يتخلّ يوماً عن الفكر الجهادي و الذي دفع ثمنه سنوات في أقبية التحقيق ... لكن و لمدة خمس سنوات مضت كان هناك أمر معلق ينتظر خروجه من السجن ... هناك رقية ، التي قرأت فاتحتها قبيل اعتقال وليد الثاني عام 94 بأيام فقط ، تقول الزوجة ، أم خالد كما تحب أن تنادى لأيضاً : " في تلك الفترة تقدم وليد لخطبتي ، و أجابت عائلتي بالقبول ، و لكن قبل أيام من موعد عقد القران كان وليد عرضة للاعتقال ، و عندها كان في السنة الثانية من دراسته ، لذلك هذه الخطبة لم يكتب لها أن تتم بصورة اعتيادية .." ، لم يكن أمام "الخطيبة" آنذاك سوى الانتظار ليس قسراً و إنما اختياراً و عن سابق تصميم .
ما الذي يدفع فتاة لربط مستقبلها بشاب لا تملك حياته من الاستقرار أدناه ... سألناها ، قالت بثبات الروح المسلمة التي تسكنها : "لم يكن يعنيني في وليد ارتباطاته الدنيوية ، جل ما تمنيته في حياتي أن أرتبط بشابٍ يخاف الله و لم أكن لأنظر لسوى ذلك ، لقد كان هم وليد الأول ماذا سيقدم لله و لرفعة دينه ، ... و قد كان شرف عظيم لي أن يمن الله عليّ بزوج مثل وليد .. كنت سأنتظره و لو طال الأمر عقوداً و ليس مجرد سنين ..." .
في تشرين الأول من العام 2000 خرج وليد من سجنه عن خطبة دامت خمس سنوات ، و تم الزواج فعلياً هذه المرة مع آمال بحياة مستقرة و دون منغصات اعتقالية ...
في الثلاثين من تموز من العام التالي كانت أم خالد حامل في شهرها السادس عندما طرق الجنود باب بيتهم ، "كان وليد قد غادر المنزل لتوه حيث توجه لعيادة عمته المريضة ، عندما راح الجنود يحاصرون المنزل ، لم أشاهد في وجوههم سوى الارتباك بينما تعاملنا نحن العائلة مع الوضع باعتيادية و طبيعية تامة ... استدعينا وليد و عندها اعتقلوه بعد أن قاموا بتفتيش المنزل ..." تروي أم خالد ظروف اعتقال زوجها ... و تضيف : "في الحقيقة لم أكن أتوقع اعتقال زوجي في تلك الفترة ، خاصة أنه كان ملتزم من عمله إلى بيته ، و لم أشعر يوماً أن هناك ما يريب أو غير طبيعي في تصرفاته ... لكن حكم الله سينفذ مهما حدث ، و ها هو اليوم يقضي حكماً بالاعتقال الإداري في معسكر عوفر ..." .
ولدت ولاء ... نفس الابتسامة و ذات العيون :
بعد ثلاثة أشهر من اعتقاله الأخير ولدت ولاء ... لم يتسنّ لوليد رؤيتها .. و شهر بعد آخر كبرت الطفلة على صورة لوالدها تلقي عليها التحية صباحاً و مساءاّ ... حتى أنها تعلمت نطق : " بابا" دون وجوده فعليان لكنها صارت مع الأيام تدرك أن هناك شق آخر لحياتها لا يمكن الإغفال عنه ، و هذا ما أثمر فعلاً عندما استطاعت الطفلة و للمرة الأولى مشاهدة والدها في إحدى المحاكم العسكرية بالقرب من قطاع غزة ، ... "لم تكن تعنينا المسافة ... كنا سنذهب لآخر الدنيا كي نراه ، لقد مر وقت طويل لم نعلم من أخباره شيئاً ، و لم يكن يساند صبرنا سوى الرضا بحكم الله ... و بالفعل قمنا باستصدار تصاريح خاصة و استطعنا الوصول للمحكمة .." .
و كيف كانت ردة فعله حينذاك ؟ ، تقول أم خالد : "لطالما ذكرني وليد بعهد الصحابة .. لقد كان دوماً متّزناً في كل شيء حتى في إفصاحه عن مشاعره ، و لم يكن حينها على استعداد أن يشعر من حوله بألمه و حزنه ، على العكس حمل طفلته و راح يحدثها بهدوء ... و كانت تجيبه و كأنها تعايشه يوماً بيوم ، و أخذ يقرأ عليها آيات من القرآن الكريم و هي تردد معه ..." ... ضحكت أم خالد للذكرى : " إنها تشبهه تماماً ... نفس العينان و ذات الابتسامة ، لم يكن يوماً غريباً عنها و قد تعودت وجوده في كل شيء ...." أضافت .
الأبناء صورة آبائهم :
غياب وليد أبو خالد عن عائلته منذ أكثر من أربع سنوات لم يُثنِ من عزيمة الأهل شيئاً ، و بالرغم من كونه الأكبر بين أخوته و قد ترك فراغاً كبيراً إلا أنه كما تقول زوجته : "الأبناء لا يعكسون سوى صورة آبائهم ..." ، و تتابع : "للأمانة بيت عمي ناس كرام و لولا ذلك لم يخرج من هذا البيت رجل كوليد ، فقد كان عمي و عمتي دوماً قدوة لأبنائهم ... جميعنا نشعر في كل المناسبات أن وليد بيننا و نعيش راضين بنعمة الله علينا ..." .
وعن شعورها الشخصي بغياب زوجها تضيف : "لم أسمح لنفسي بالانسياق وراء الأحزان و تعقيد حياتي ، بل إنني أحمد الله ألف مرة لأنه وهبني هذا الإنسان زوجاً ، و بالرغم من كل شيء أشعر بالسعادة ، فهناك الكثير من الزوجات لا يعرفن طعم السعادة رغم حياتهن المستقرة و وجود أزواجهن بجانبهن ، لكنني أشعر بأن الله يمتحننا بالصبر و الحمد لله على كل شيء ..." .
أحاديث العائلة القليلة على الهاتف مع وليد لا تتعدى كونها مناسبة للفرح : "لا يشعرنا وليد أبداً بالتذمر ، هذه السمة غير موجودة فيه ... دائماً راضي عن كل شيء ، و حتى في أيام البرد الشديد و الإضرابات ، و عندما نسأله عن أحواله ، يرد ( كل شي تمام ، أوضاعنا ممتازة المهم أنتم ) " .
إنسان محبوب :
خارج المعتقل و في الحياة الطبيعية وليد إنسان متميز في علاقاته الاجتماعية ، و يتمتع بشعبية كبيرة في أوساط العائلة و الأصدقاء ، تقول أم خالد : "شعار وليد في الحياة قول الرسول عليه السلام ( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ) ، لذلك كان دائم التواصل مع أقاربه و كان يولي اهتماماً كبيراً و لا زال بصلة الرحم ، و حتى أبعد الأقارب كان يهتم بزيارتهم و الاطمئنان عليهم" .
العقيدة والفقه وأشياء أخرى...
اليوم يقضي وليد حكماً متجدّداً بالاعتقال الإداري في معسكر عوفر ، و يواصل رحلته مع المطالعة ، تلك العادة التي استهوته منذ صغره ، قراءاته الواسعة قادته بالضرورة للبحث و الاطلاع في أمور فقهية و عقائدية حتى استطاع إنجاز جملة من المؤلفات داخل المعتقل و على مستوى عالي من البحث و التحليل ، إصداره الأول حمل عنوان "الاستدلال العقلي على وجود الله" و هو كتاب في العقيدة للمبتدئين ، و قد غدا أحد المواد المقررة للدراسة داخل المعتقل ، و بخصوص هذا الإصدار قال وليد أبو خالد ذات مرة : "إن السبب وراء إعداد هذا الكتاب هو احتكاكي في السجن ببعض المعتقلين من أبناء الفصائل اليسارية من الشيوعيين ، هؤلاء الناس شكلوا لدي حالة من الاستغراب ، إنه لمن العجب أن تنهار الشيوعية في ديارها و يظل لها في بلادنا أنصار ..." .
و بالإضافة إلى إصداره الأول أعدّ وليد مؤخّراً كتاباً يحمل عنوان "عكس التيار" و هو مجموعة مكونة من عشرة دروس و من بينها "لقد مضى عهد النوم" ، و "لا تكن كصاحب الحوت" ، و "أنا أول المسلمين" ، و "براح و أفراح" .
عندما سألنا الزوجة عن طموحات أبو خالد قبل اعتقاله أجابت : "لم يكن وليد يفصح عن أمنياته .. لكنه دوماً كان يحب أن يتقدم في المجال العلمي ..." ، في آخر كلماتها أضافت : "ليعذرني وليد إن صرت أعتقد اليوم أنه كان ليصبح كاتباً متميّزاً لو أعطي الفرصة الكافية ..." .
تعليق