الرنتيسي وياسين .. كرامات في الزنازين! الرنتيسي والشيخ ياسين في زنزانة واحدة!! فعلاً لقاء السحاب.. مواقف وحكايات وكرامات يحكيها الشهيد الدكتور الرنتيسي في مذكراته عن تلك الفترة..
الأوامر البلهاء
في معتقل غزة المركزي استيقظتُ ذات يوم، وكان آخر يوم في شهر رمضان على رؤية، فأخذت أقصُّها على الإخوة في غرفة رقم (3) قسم (ب)، وقلت لهم: لقد رأيت أني أركب حافلة متجهة صوب الشمال، وبينما أقصُّ عليهم الرؤية إذا بصوت الميكروفون ينادي قائلاً: "عبدالعزيز الرنتيسي" عليه أن يلملم أمتعته وينزل إلى ساحة السجن" ...
ففعلت، وإذا بهم يأخذونني إلى سجن (الرملة)؛ حيث يوجد قسم الانتظار والعبور من معتقل إلى آخر، ومدينة الرملة تقع بالنسبة إلى قطاع غزة في اتجاه الشمال، وقسم المعبار (الانتظار) هذا كان تحت الأرض، وعبارة عن صف طويل من زنازين ضيقة تنتهي إلى غرفة جعلوني فيها.
وفي صباح اليوم التالي صباح عيد الفطر وجدت نفسي في الغرفة وحيدًا، فأخذت بالتكبير للعيد، ثم صليت العيد منفردًا، وانتابتني مشاعر غريبة جدًّا، فهذه هي المرة الأولى التي أصلي فيها العيد وحدي، وقد كنت أسمع أصوات إخواني في الزنازين وهم يكبرون؛ ولكن لا أراهم، ثم أخرجوهم ليصلوا العيد في الفورة (الساحة) وبقيت في غرفتي المعزولة عنهم وحيدًا.
وبعد يومين تم نقلي إلى سجن (كفار يونا) المطل على مفترق (بيت ليد) حيث زنزانة الشيخ "أحمد ياسين"، ولأن الشيخ لا يستطيع أن يحرك يدًا ولا قدمًا؛ حيث يعاني من شلل رباعي فإنه دائمًا بحاجة إلى اثنين من المرافقين على أقل تقدير، وعندما ارتقيت سيارة نقل السجناء التقيت بالأخ الفاضل المهندس "نزار عوض الله"، وقد أُحضر من أحد المعتقلات ليكون شريكي في خدمة الشيخ.
وفي غرفة الاستقبال في سجن كفار يونا التقينا بالأخوين الحبيبين "يحيى السنوار" و"روحي مشتهى"، اللذين أنهيا مرافقتهما للشيخ وسينقلان إلى سجن آخر. وبعد إتمام الإجراءات صعدنا إلى زنزانة الشيخ ومعنا شرطي، وصدمت عندما وصلت باب الزنزانة؛ وذلك لأن الباب كان موصدًا بالمزلاج وفوق ذلك عليه ثلاثة أقفال، فقلت للشرطي: الشيخ لا يستطيع الحركة فلماذا كل هذه الأقفال؟ فقال إنها الأوامر، نعم إنها الأوامر البلهاء حقًّا.
ودخلنا على الشيخ وكان لقاءً حارًّا جدًّا وممتعًا، وبدأنا رحلتنا مع الشيخ، وقد توليت إطعامه وحمامه وكل شيء من أمور حياته، فهو لا يستطيع أن يساعد نفسه حتى في حكِّ جلده، وقد عكفنا في هذه الفترة بالذات على إتمام حفظ القرآن وقد وفقنا الله لذلك، والحمد لله.
البراغيث السمان
كانت إدارة المعتقل تسمح لنا بالخروج إلى ساحة مغلقة في كل يوم ساعتين تسمى "الفورة"، فيتمدد فيها الشيخ مستندًا بظهره إلى الجدار، بينما كنت وزميلي الذي تم تغييره؛ حيث أحضر الأخ "نصر صيام" بدلاً من المهندس "نزار عوض الله"، نتمشى في الفورة.
وكانت هذه الفورة في أوقات أخرى من اليوم تستخدم من قِبل سجناء جنائيين من يهود وفلسطينيين، وكانوا لا يهتمون بالنظافة ممَّا أدى إلى امتلاء الفورة بالبراغيث، فذات يوم اكتشفت أن الحشرات تقفز على ملابسي، فأخبرت صاحبي فوجدته يعاني من نفس الشيء، وقد تبين لنا أنها براغيث.
فذهبت إلى الشيخ أنظر حاله فلم نجد برغوثًا واحدًا على ثيابه، وشكونا الحال إلى إدارة المعتقل؛ ولكن عبثًا، واستمر الوضع قرابة الأسبوعين عندما نصل إلى الفورة تقفز إلينا البراغيث بأعداد كبيرة، فقد كنت أقتل منها يوميًّا قرابة العشرة براغيث، والعجيب أنها كانت على مدى الأسبوعين لا تقترب من الشيخ، فسألته مداعبًا ترى ما السبب؟ فقال إنها تبحث عن السمان، فضحكت وقلت له: بل صدَّها الله عنك؛ لأنه يعلم أنك لا تستطيع حك جلدك، فضحك الشيخ وضحكنا.
دعوة لا ترد
من عجائب هذه الفترة التي امتدت أربعة أشهر ونصف أنه في يوم الجمعة كنا نستقبل أهلنا في زيارة عائلية؛ حيث يحضرهم الصليب الأحمر في سيارة خاصة، وفي إحدى أيام الجمعة تم استدعاؤنا لزيارة الأهل، وهناك في مكان الزيارة فوجئت أن أهلي لم يحضروا، بينما حضر أهل الشيخ وأهل الأخ "نصر".
فمضى وقت الزيارة وهو نصف ساعة بطيئًا جدًّا؛ حيث إن أهل الشيخ وأهل زميلي كانوا يجاملونني على حساب زيارتهم، وأخذت أذهب بعيدًا في التفكير مُسائلاً نفسي عن سبب تأخرهم، وبدا عليَّ أثر الهمِّ.
وعدنا من الزيارة إلى الفورة، فقال لي الشيخ: ما بالك مهمومًا، فقلت له: لا أدري سببًا لتأخرهم، فهم لم يتأخروا يومًا من قبل، فقال: وهذا أمر يستحق الاهتمام؟ فقلت: ولم لا؟ فقال: اعتبرهم ماتوا، فقلت له: أنا لا أستطيع ما تستطيعه. وتركته وانتحيت جانبًا في إحدى زوايا الفورة بعيدًا عن الشيخ، ورفعت الأكف ضارعًا إلى الله، وقلت: "اللهم إن كنت راضيًا عن خدمتي للشيخ فطمئني على أهلي"
فو الذي فطر السماء والأرض إذا بشرطي يناديني ويداي مرفوعتان ليقول تعال للزيارة فقد حضر أهلك، والذي زاد في دهشتي أن هذا الشرطي لم أره من قبل، فإذا به ونحن منطلقون إلى الزيارة يقول لي: "اهتم بالشيخ"، وكأن الله ألهمه أن يقول ذلك كي أعلم أن زيارة الأهل كانت استجابة للدعاء
يهودي يقبل يد ياسين
ومن الطرائف التي حدثت في هذه الفترة أنه بينما كنا ننقل الشيخ ذات يوم إلى الفورة، قابلنا وجهًا لوجه على الدرج أحد السجناء الجنائيين اليهود، وكان يرافقه أحد عناصر الشرطة، فما كان من السجين إلا أن التقط يد الشيخ أحمد ياسين وقبلها، ثم قال لي: فعلت ذلك لإغاظة الشرطي والشرطي يسمع، وهؤلاء السجناء رغم أنهم يهود إلا أنهم كانوا يحقدون على إدارة السجن، ولذا كانوا يتعاطفون معنا؛ لأن عدونا وعدوهم واحد، وهو إدارة السجن.
استعدوا للذبح
ومن الطرائف التي حدثت في هذه الفترة أن شرطيًّا يهوديًّا رآني أحمل القرآن وأتصفحه، فسألني يا دكتور ماذا في كتابكم؟ فقلت: أمور كثيرة، قال: ماذا يقول أنكم فاعلون بنا؟ قلت له: يقول إننا سنذبحكم بعد أن تتجمعوا في بلادنا، فقال: متى يكون ذلك؟ فقلت له: لا أدري ربما يكون خلال أربعين سنة.
وكنا في عام 1990م، فأخذ يحسب ثم همهم قائلاً ليس مهما بالتأكيد سأكون ميتًا، فقلت له: وماذا تقول التوراة؟ فقال نفس الشيء فتجمعنا هنا نهايته الذبح، ثم استدرك قائلاً: ولكن عندما نفسد، فقلت: سبحان الله كأنكم لم تفسدوا بعد.
وبعد أربعة أشهر ونصف ودَّعت الشيخ وتمَّ نقلي إلى سجن الرملة، ومنها إلى سجن المجدل لأقضي هناك آخر أيام الاعتقال؛ حيث قد كان الحكم سنتين ونصف، وكنت قد أمضيت المدة ولم يتبق إلا تسعة عشر يومًا قضيتها مع الحبيب الشهيد الدكتور إبراهيم المقادمة
تعليق