لا تزال آلات وأدوات تغطية العجز العربي في مواجهة العدوان الإسرائيلي الوحشي علي قطاع غزة في محاولة لتدميره وإبادة مقاومته قائمة علي قدم وساق، تنثر الأكاذيب أحيانًا، وتنشر أنصاف الحقائق أحيانًا أخري، وفي كل الأحوال تتجنب ذكر الحقيقة كاملة اقترابًا منها واعترافًا بها، ومنذ بدأ العدوان في أواخر ديسمبر- كانون الأول الماضي وإلي اليوم لا تزال «عملية الفبركة» قائمة مستمرة، وهدفها أن تبرئ- لو استطاعت- العدو مما ارتكب من جرائم بربرية وأن تضع المسئولية علي الفصائل الفلسطينية، أو علي بعضها، وفي المقدمة منها حركة «حماس». ولا يحتاج المرء إلي إعلان وتأكيد أنه لا يدافع عن «حماس» أو «غير حماس» من الفصائل، وما يعنيه هو شعب فلسطين وأرضه وحقوقه، بل ما يعنيه أكثر هو الأمن القومي العربي وفي مقدمته وفي أساسه أمن مصر، وانطلاقاً من إيمان لا يتزعزع ومن اعتقاد لا يهتز أن فلسطين قضية مصرية، وأن خطر الكيان الصهيوني علي مصر ليس أقل منه علي فلسطين التي كانت وستظل دهليز مصر وبوابتها الشرقية، هذا واقع الجغرافيا ودرس التاريخ، وعبرة الماضي القريب، وهذه حقائق لا يأتيها الباطل من أي اتجاه أو جهة. وهي - بطبيعتها- تختلف جذريا عن أكاذيب تتردد، وأفكار تختلق وليس لها أصل ولا فصل ولا ظل في الواقع.. ويقف المرء اليوم عند أكذوبتين فقط، ترددنا في الأسابيع الأخيرة علي نطاق واسع، في محاولة يائسة للايحاء بأنهما صحيحتان. الأكذوبة الأولي تدعي زورًا وبهتانًا أن الخلاف الفلسطيني كان سببًا ومدعاة لوقوع العدوان الإسرائيلي علي قطاع غزة وليس في قلبه ذرة من عروبة أو إيمان بفلسطين من يؤيد أي خلاف فلسطيني أو من يدعو إليه ويدافع عنه، ويسهم فيه بقدر أو آخر. هذا شيء، والادعاء بأن الخلاف سبب العدوان شيء آخر، لأن مثل هذا الادعاء - شاء أصحابه أم أبوا هو تبرير للعدوان من ناحية والقاء مسئوليته علي الشعب الفلسطيني من ناحية أخري. ولا أدل علي الاختلاق في هذه الأكذوبة من أن هناك عشرات الاعتداءات الإسرائيلية علي الشعب الفلسطيني ومدنه وقراه، بينما لم يكن هناك أي خلاف فلسطيني. وإلا فقولوا لنا بربكم أين هو الخلاف الفلسطيني الذي دفع العدو في يونيو- حزيران 1967 إلي احتلال قطاع غزة والضفة الغربية والقدس؟ وقس علي ذلك اجتياح جنوب لبنان في 1978، وغزو الجنوب وحصار بيروت في 1982 من أجل طرد قوي المقاومة ومنظمة التحرير من لبنان، وحصار الرئيس عرفات في «المقاطعة» في رام الله، دون أن يرتفع صوت عربي يطلب رفع الحصار وتحرير الرئيس الأسير الذي لم يخرج من أسره إلا إلي ميت عولج ولقي وجه ربه! وأين هو الخلاف الفلسطيني يوم شن العدو عدوانه الذي سماه «السور الواقي» وغير ذلك كثير. لم يكن الخلاف الفلسطيني سببًا حقيقيا لعدوان إسرائيلي، قد يقال إن غياب الوحدة الوطنية الفلسطينية جعل مقاومة العدوان أضعف مما كان يجب، قد يقال إن العدوان علي غزة الذي سموه «الرصاص المصهور» استهدف زيادة الشرخ بين الفصائل الفلسطينية خاصة بين فتح وحماس. وقد يقال أيضًا إن العدوان استهدف تعميق الانفصال بين الضفة وغزة، كل هذا وارد، ولكن غير الوارد أن يبرر العدوان بالخلاف الفلسطيني. من يقولون هذا أو يتقولونه يدينون أنفسهم وسياساتهم من حيث لا يشعرون، فلو كان الأمر كذلك لماذا لم يحاولوا رأب الصدع الفلسطيني واستعادة الوحدة الفلسطينية كاملة شاملة منذ صدر قرار بذلك في مؤتمر القاهرة في مارس/ آذار 2005 أي قبل حوالي أربع سنوات. الأكذوبة الأخري التي تستحق الوقوف عندها اليوم مرة أخري هي أكذوبة أن «حماس» تتحمل المسئولية عن إنهاء التهدئة عند عودتها إلي استخدام الصواريخ «الفشنك» أو المواسير الفارغة كما يسمونها. وقد كتب كثيرون حقائق واعترافات إسرائيلية وصهيونية تنقض هذا الادعاء، وتؤكد أن العدوان كان عملية مخططة ومبيتة منذ 2006 ولكن الأيام الأخيرة كشفت عن واقعة كبيرة الأهمية في هذا الشأن، وقد نشرها الصحفي الإسرائيلي المعروف «عكيفا إلدار» في صحيفة «هآرتس» في العاشر من يناير / كانون الثاني الحالي، أي في يوم اجراء الانتخابات النيابية الإسرائيلية وقد تساءل بداية لمن كان سيصوت «جلعاد شاليط» الجندي الإسرائيلي الأسير لدي حركة «حماس» ولصالح مَن مِن السياسيين الذين كانوا منخرطين في الاتصالات الجارية لإطلاق سراحه، وأضاف: لو أن «شاليط» سمع الواقعة التالية لأعطي صوته لحركة «ميادة» أو الحركة الخضراء، التي يعتبر «جيرشون باسكن» أحد مؤسسيها كما أن المدير العام المشارك في «ايباكري» أي «معهد الدراسات الإسرائيلي- الفلسطيني» لماذا يصوت له؟ أجاب إلدار بأن «جيرشون باسكن» هذا كرس علاقاته مع قادة «حماس» من أجل خدمة عائلة «شاليط»؟ كيف كان ذلك؟ أضاف الصحفي الإسرائيلي نقلاً عن باسكن: «قبل الحرب (أرجو أن تقرأها العدوان) بأسبوعين التقيت في أوروبا طرفًا بارزًا في «حماس». قبل أربعة أيام من الحرب «!» سلمت رئيس الوزراء «إيهود أولمرت» ووزير الدفاع «إيهود باراك» ووزيرة الخارجية «تسيبي ليفني» اقتراحا تلقيته منه «يقصد من الطرف البارز في «حماس») بفتح قناة اتصال مباشرة وسرية مع «حماس». استهدف الاقتراح التوصل إلي اتفاق بشأن استئناف وقف إطلاق النار لفترة زمنية طويلة وفتح المعابر واطلاق سراح «شاليط» مقابل إطلاق سراح سجناء فلسطينيين ويكمل «جيرشون باسكن» روايته مؤكدًا أنه لم يتلق ردًا من أي عضو في الثلاثي القيادي الإسرائيلي، وقبل الشروع في العملية البرية بيومين نقلت لهم الاقتراح مرة أخري، ولم أحظ برد في هذه المرة أيضًا». وعلي هذه الواقعة، يعلق «عكيفا إلدار» بقوله: «منذ ذلك الحين يعيش «باسكن» تحت شعور شديد بأن «حرب غزة» لم تكن في الواقع حربًا اضطرارية لا مفر منها من أجل الدفاع عن سكان الجنوب. وليس وحده في هذا الشعور. مسئولون كبار جدًا في المستويات الاختصاصية والمهنية كانوا مطلعين علي عملية صنع القرار بشأن «عملية غزة» مستعدون للقول أمام لجنة التحقيق إن الحكومة لم تبذل جهودًا حقيقة لاستئناف وقف إطلاق النار وهذا هو الحد الأدني والمفيد». فما رأيكم يا من لا ترون ور اء كل مصيبة إلا كل ما هو فلسطيني وعربي؟ كيف تتقبلون هذا الاعتراف الإسرائيلي؟