يرصد عودة الحياة إلى غزة.. علامة النصر مرسومة على الهواء
الأحد، 25 يناير 2009 - 14:11
غزة – رفح –
الشعب الفلسطينى يقاوم العدوان والقتل بالبقاء على قيد الحياة، يواجهون الدبابات والطائرات بالتشبث بالبقاء على أرضهم، ويواجهون هدم بيوتهم بابتسامة الناجين المصرين على المقاومة، وهذا هو النصر الحقيقى، الذى يعبر عنه الطفل الذى يرسم علامة النصر فى الهواء.
الساعة فى يدى كانت تشير إلى الثانية فجر الأحد، وقد أعلنت إسرائيل وقف إطلاق النار قبل قليل. ترجلت من السيارة فى رفح المصرية ولم أصدق أن عشرات بل مئات الشباب ساهرون على المقهى الوحيد الذى نجا من القصف فى شارع صلاح الدين، بينما العشرات يقفون هناك ينظرون إلى ما خلفته آلة الحرب الإسرائيلية من دمار.
الناجون يعينون الناجين على الحياة
واصلت السير إلى المقهى، حيث التف الجميع حولى يسألوننى هل تمكنت من الدخول إلى رفح الفلسطينية أم لا؟. نزل من إحدى البنايات زميل مقيم فى رفح الفلسطينية وآخر جاء بسيارته ليتابع وقف إطلاق. حكى لنا محمود السيد مواطن مصرى مقيم برفح، أن والدته اقتربت منذ أيام من البوابة وألقت "كراتين" من المواد الغذائية والمياه لأقاربنا فى غزة عند شارع صلاح الدين، وأن جندى الحراسة قال لها "بسرعة يا حاجة الله معهم والله أنا حزين لكن ما باليد حيلة".
على المقهى كان الشباب يتحدث عن مرحلة ما بعد الحرب، ويأملون فى ألا يتعامل التجار بجشع وأن يبيعوا المؤن بأسعار عادلة حتى يتمكنوا من إرسال المساعدات إلى غزة، بينما أشار أحدهم أن هذا دور التجار، أم توصيل المساعدات إلى أهالينا فى غزة "فخليها علينا إحنا"
حتى المدارس لم تسلم من العدوان
اتجهت إلى مدرسة "الإمام على" برفح قرب الحدود، المدرسة خرجت للتو من المعركة، فالأبواب محطمة والزجاج متناثر فى الفناء، وحتى العامل الوحيد، الذى يعمل بها ترك الخدمة واصطحب أولاده إلى أقاربه فى العريش. فناء المدرسة به بعض الشظايا وحفرة كبيرة نتيجة سقوط شظية فيها، وهو المشهد نفسه فى مدرسة "عباس العقاد" و"مدرسة البنات".
حركة غير عادية قرب الحدود عند منطقة حى السلام سيارات مطافئ وعدد من العسكريين ينقلون خمس صواريخ كبيرة سقطت قرب الحدود وحولت المناطق المجاورة إلى منازل خاوية على عروشها بعد أن رحل عنها الأهالى، فمبنى البنك نفسه لم يسلم من القصف والدمار، فما بالك بمنازل "الناس الغلابة" هذا ما قاله لى موظف بالبنك.
الفرار من النيران إلى النيران
قارنت بين هذا الموظف وبين رجاء السيدة الفلسطينية التى التقيتها صباح نفس اليوم بمستشفى العريش، وكانت تجلس على أحد المقاعد بين الحياة والموت تنتظر مصير ابنتها، أخبرتنى أن ابنتها البالغة من العمر (16 عاماً) كانت تريد إنهاء المدرسة الثانوية والالتحاق بالجامعة، وأنها أرسلت ابنتها لمنزل أحد الأقارب فى خان يونس بعيداً عن النار وسط السكان، لكن القدر كان أسرع منها، فبينما كانت الفتاة تقف إلى جوار خالها فى مدخل المنزل ألقت الطائرات الإسرائيلية بقنبلة على المنزل فحرمت الخال من ساقيه والفتاة الصغيرة من إحدى ساقيها. وأضافت الأم المكلومة من بين دموعها، أنها فى البداية سمعت أن ابنتها ماتت، فهرعت إلى بيت أخيها ودخلت بين الحطام ورأت المشهد المفزع، فابنتها هناك ترقد بدون ساق والدماء تغطيها. وقالت الأم، شلت حركتى بين أن احتضنها بين ذراعى أو أتركها لرجال الإسعاف، كادت أنفاسى تتوقف من شدة الحزن على شباب ابنتى الذى ضيعه الغدر الإسرائيلى، ولم يقلل من حزنى سوى مشاهد النساء اللاتى تبكين على أطفالهن الشهداء.
الطفل "جهاد" يتكئ على علامة النصر فى الهواء
فى مستشفى العريش أيضاً رأيت الطفل جهاد طفل، الذى لم تفارق الابتسامة شفتيه على الرغم من أنه مصاب فى أجزاء متفرقة من جسده بحروق من القنابل الفسفورية، وأصابعه الصغيرة ترسم فى الهواء علامة النصر. بينما قال لى والده، إن هذا الجيل تربى على المعاناة لديه القدرة على الاحتمال أكثر من الكبار.
ذهبت لمقابلة العميد محمود ياسر مدير مستشفى مبارك العسكرى بالعريش، بعد جولتى بين ضحايا العدوان فى مستشفى غزة. عبر لى مدير المستشفى عن تأكده من أن إسرائيل تستخدم نوعاً جديداً من القنابل، وقال تعاملت مع جرحى حروب سابقة وفى مناطق مختلفة من العالم، ولم أرَ فى حياتى حروقاً كتلك، لا تكتفى بالجلد بل تمتد إلى الأنسجة والعظام. وقال أنا لا أعرف نوع هذا السلاح، لكننى متأكد من أنه محرم دولياً. وقال إن إسرائيل تريد أن تخلف وراءها جيلاً من الجرحى والمعاقين، وأنه بكى كثيراً من مرأى الحالات التى وصلت إلى المستشفى، والتى لا تخلو من تشوهات فظيعة.
مدير المستشفى متأكد من السلاح الحرام
وبينما يواصل كلامه قادنى مدير المستشفى إلى الطابق الثانى، حيث الطفل "زياد" الذى فقط إحدى عينيه وشوهت وجهه الحروق، وقال أى سلاح يصيب طفلاً بهذا غير سلاح محرم دولياً. بينما همس زياد أنه كان يسير فى الشارع، الذى تحول إلى مقبرة جماعية، بينما كانت القنابل تتساقط من كل مكان فى السماء والكل فى مرمى النار، ويقول كنا نفر من نار إلى أخرى، ولم أعِ لنفسى إلا وأنا وعشرات مثلى على هذه الحالة.
هكذا كانت ذكرياتى عن زيارة مستشفى العريش، استعدتها الآن، بينما نحن على المقهى نثرثر حول كيفية إرسال المساعدات إلى من بقى حياً فى غزة، لنعينهم على الحياة طالما لم نتمكن من إعانة غيرهم إمام الموت. بينما صوت أحدهم على المقهى يقول "لعلها آخر النيران".
الأحد، 25 يناير 2009 - 14:11
غزة – رفح –
الشعب الفلسطينى يقاوم العدوان والقتل بالبقاء على قيد الحياة، يواجهون الدبابات والطائرات بالتشبث بالبقاء على أرضهم، ويواجهون هدم بيوتهم بابتسامة الناجين المصرين على المقاومة، وهذا هو النصر الحقيقى، الذى يعبر عنه الطفل الذى يرسم علامة النصر فى الهواء.
الساعة فى يدى كانت تشير إلى الثانية فجر الأحد، وقد أعلنت إسرائيل وقف إطلاق النار قبل قليل. ترجلت من السيارة فى رفح المصرية ولم أصدق أن عشرات بل مئات الشباب ساهرون على المقهى الوحيد الذى نجا من القصف فى شارع صلاح الدين، بينما العشرات يقفون هناك ينظرون إلى ما خلفته آلة الحرب الإسرائيلية من دمار.
الناجون يعينون الناجين على الحياة
واصلت السير إلى المقهى، حيث التف الجميع حولى يسألوننى هل تمكنت من الدخول إلى رفح الفلسطينية أم لا؟. نزل من إحدى البنايات زميل مقيم فى رفح الفلسطينية وآخر جاء بسيارته ليتابع وقف إطلاق. حكى لنا محمود السيد مواطن مصرى مقيم برفح، أن والدته اقتربت منذ أيام من البوابة وألقت "كراتين" من المواد الغذائية والمياه لأقاربنا فى غزة عند شارع صلاح الدين، وأن جندى الحراسة قال لها "بسرعة يا حاجة الله معهم والله أنا حزين لكن ما باليد حيلة".
على المقهى كان الشباب يتحدث عن مرحلة ما بعد الحرب، ويأملون فى ألا يتعامل التجار بجشع وأن يبيعوا المؤن بأسعار عادلة حتى يتمكنوا من إرسال المساعدات إلى غزة، بينما أشار أحدهم أن هذا دور التجار، أم توصيل المساعدات إلى أهالينا فى غزة "فخليها علينا إحنا"
حتى المدارس لم تسلم من العدوان
اتجهت إلى مدرسة "الإمام على" برفح قرب الحدود، المدرسة خرجت للتو من المعركة، فالأبواب محطمة والزجاج متناثر فى الفناء، وحتى العامل الوحيد، الذى يعمل بها ترك الخدمة واصطحب أولاده إلى أقاربه فى العريش. فناء المدرسة به بعض الشظايا وحفرة كبيرة نتيجة سقوط شظية فيها، وهو المشهد نفسه فى مدرسة "عباس العقاد" و"مدرسة البنات".
حركة غير عادية قرب الحدود عند منطقة حى السلام سيارات مطافئ وعدد من العسكريين ينقلون خمس صواريخ كبيرة سقطت قرب الحدود وحولت المناطق المجاورة إلى منازل خاوية على عروشها بعد أن رحل عنها الأهالى، فمبنى البنك نفسه لم يسلم من القصف والدمار، فما بالك بمنازل "الناس الغلابة" هذا ما قاله لى موظف بالبنك.
الفرار من النيران إلى النيران
قارنت بين هذا الموظف وبين رجاء السيدة الفلسطينية التى التقيتها صباح نفس اليوم بمستشفى العريش، وكانت تجلس على أحد المقاعد بين الحياة والموت تنتظر مصير ابنتها، أخبرتنى أن ابنتها البالغة من العمر (16 عاماً) كانت تريد إنهاء المدرسة الثانوية والالتحاق بالجامعة، وأنها أرسلت ابنتها لمنزل أحد الأقارب فى خان يونس بعيداً عن النار وسط السكان، لكن القدر كان أسرع منها، فبينما كانت الفتاة تقف إلى جوار خالها فى مدخل المنزل ألقت الطائرات الإسرائيلية بقنبلة على المنزل فحرمت الخال من ساقيه والفتاة الصغيرة من إحدى ساقيها. وأضافت الأم المكلومة من بين دموعها، أنها فى البداية سمعت أن ابنتها ماتت، فهرعت إلى بيت أخيها ودخلت بين الحطام ورأت المشهد المفزع، فابنتها هناك ترقد بدون ساق والدماء تغطيها. وقالت الأم، شلت حركتى بين أن احتضنها بين ذراعى أو أتركها لرجال الإسعاف، كادت أنفاسى تتوقف من شدة الحزن على شباب ابنتى الذى ضيعه الغدر الإسرائيلى، ولم يقلل من حزنى سوى مشاهد النساء اللاتى تبكين على أطفالهن الشهداء.
الطفل "جهاد" يتكئ على علامة النصر فى الهواء
فى مستشفى العريش أيضاً رأيت الطفل جهاد طفل، الذى لم تفارق الابتسامة شفتيه على الرغم من أنه مصاب فى أجزاء متفرقة من جسده بحروق من القنابل الفسفورية، وأصابعه الصغيرة ترسم فى الهواء علامة النصر. بينما قال لى والده، إن هذا الجيل تربى على المعاناة لديه القدرة على الاحتمال أكثر من الكبار.
ذهبت لمقابلة العميد محمود ياسر مدير مستشفى مبارك العسكرى بالعريش، بعد جولتى بين ضحايا العدوان فى مستشفى غزة. عبر لى مدير المستشفى عن تأكده من أن إسرائيل تستخدم نوعاً جديداً من القنابل، وقال تعاملت مع جرحى حروب سابقة وفى مناطق مختلفة من العالم، ولم أرَ فى حياتى حروقاً كتلك، لا تكتفى بالجلد بل تمتد إلى الأنسجة والعظام. وقال أنا لا أعرف نوع هذا السلاح، لكننى متأكد من أنه محرم دولياً. وقال إن إسرائيل تريد أن تخلف وراءها جيلاً من الجرحى والمعاقين، وأنه بكى كثيراً من مرأى الحالات التى وصلت إلى المستشفى، والتى لا تخلو من تشوهات فظيعة.
مدير المستشفى متأكد من السلاح الحرام
وبينما يواصل كلامه قادنى مدير المستشفى إلى الطابق الثانى، حيث الطفل "زياد" الذى فقط إحدى عينيه وشوهت وجهه الحروق، وقال أى سلاح يصيب طفلاً بهذا غير سلاح محرم دولياً. بينما همس زياد أنه كان يسير فى الشارع، الذى تحول إلى مقبرة جماعية، بينما كانت القنابل تتساقط من كل مكان فى السماء والكل فى مرمى النار، ويقول كنا نفر من نار إلى أخرى، ولم أعِ لنفسى إلا وأنا وعشرات مثلى على هذه الحالة.
هكذا كانت ذكرياتى عن زيارة مستشفى العريش، استعدتها الآن، بينما نحن على المقهى نثرثر حول كيفية إرسال المساعدات إلى من بقى حياً فى غزة، لنعينهم على الحياة طالما لم نتمكن من إعانة غيرهم إمام الموت. بينما صوت أحدهم على المقهى يقول "لعلها آخر النيران".
تعليق