فتح وحماس.. صراع على السلطة أم على الشعبية أم كليهما؟
ياسر الزعاترة
طرحت الصدامات المتفرقة التي وقعت خلال شهر تموز/يوليو الماضي بين قوات أمن السلطة الفلسطينية في قطاع غزة، وعناصر من كتائب القسام، الذراع العسكرية لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، أسئلة بشأن العلاقة بين الفريقين خلال المرحلة التي ستعقب الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة، في ذات الوقت الذي طرحت فيه أسئلة مشابهة بشأن المرحلة التي ستسبق الانسحاب، وإن لم تعد هذه مهمة في الوقت الراهن.
من المفيد ابتداءً القول إن ما جرى لم يكن صداماً أو اقتتالاً بالمعنى الحرفي للكلمة، بقدر ما كان استعراضاً للقوة من طرف السلطة تجاه حركة منافسة، وبالطبع في محاولة لدفعها نحو التراجع، أكان في الوقت الراهن، حيث ترتيبات الانسحاب من قطاع غزة ومتعلقاته، أم خلال المرحلة التالية بعد أن تغدو غزة شبه دولة، وإن تكن على مساحة لا تتعدى 362 كيلومترا مربعا لا تساوي أكثر من 6% من مساحة الأراضي المحتلة عام 1967، أو 1.5% من مجموع مساحة فلسطين التاريخية.
هذا التحليل لواقع الصدامات التي جرت ليس من عندنا، ولا يشكل تجنياً على السلطة وحركة فتح، بل هو تحليل تؤكده الوقائع الموضوعية على الأرض. وفي هذا السياق يشير المحلل الإسرائيلي المعروف (ألوف بن) في صحيفة هآرتس (24/7) إلى أن الأميركيين يعتقدون أن "المواجهات بين قوات أمن السلطة وبين رجال حماس في غزة كانت انعطافة مهمة عززت ثقة السلطة بنفسها".
والحال أن القول بأن ما جرى كان صداماً لم يكن واقعياً لأن قوات السلطة هي التي اعترضت عدداً من مقاتلي حماس الذين كانوا بصدد إطلاق الصواريخ على المستوطنات الإسرائيلية، وهي التي أطلقت عليهم النار فيما لم يردوا هم عليها، بدليل أن أحداً من أمن السلطة لم يصب بأذى. أما إذا قيل إن السلطة كانت تريد منع إطلاق الصواريخ فإن الرد هو: لماذا لم يحدث ذلك مع الجهاد أو مع كتائب الأقصى وكتائب أبو الريش التابعة لحركة فتح، مع أن هؤلاء جميعاً كانوا أكثر خرقاً للهدنة وإطلاقاً للصواريخ، وبخاصة حركة الجهاد التي نفذت عملية استشهادية في ناتانيا، فيما جاءت ردود حماس نوعاً من النصرة لها في مواجهة الاستهداف الإسرائيلي.
"
ما جرى بين فتح وحماس لم يكن صداماً لأن قوات السلطة هي التي اعترضت عدداً من مقاتلي حماس الذين كانوا بصدد إطلاق الصواريخ على المستوطنات الإسرائيلية، وهي التي أطلقت عليهم النار فيما لم يردوا هم عليها
"
حماس إذن هي التي كانت مقصودة وليس الحيلولة دون خرق الهدنة، على أهمية هذا الموضوع بالنسبة للسلطة في ظل القناعة بضرورة عدم خرقها كي لا يتعطل الانسحاب من قطاع غزة، ولو كان هذا البعد الأخير هو المقصود بصرف النظر عن الجهة المعنية لكان الصدام مع الجهاد أكبر، فضلاً عن أجنحة فتح التي لم تتوقف عن خرق الهدنة هي الأخرى، على رغم أن بعض عناصرها قد شارك في الصدام مع حماس تحت ذات الذريعة!!
من متابعة تصريحات القادة الفلسطينيين المعنيين أكثر من سواهم بملف مطاردة حماس وتحجيمها منذ مطلع أوسلو، يتبين لنا أن المقصود هو بالفعل تحجيم الحركة قبل وبعد الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة، تمهيداً لاستحقاقات القادم على صعيد القطاع، وعلى صعيد تمرير اللعبة السياسية التالية بصرف النظر عن مخرجاتها السياسية، تماما كما كان عليه الحال أيام أوسلو يوم أطلق جنود السلطة النار على المصلين أمام جامع فلسطين في قطاع غزة، فيما جرى اعتقال العديد من قادة وكوادر الحركة، بل وإهانتهم في كثير من الأحيان، فضلاً عن التعاون مع المحتلين في سياق تصفيتهم.
جبريل الرجوب، قائد الأمن الوقائي السابق في الضفة الغربية كان عنوان التحريض الأول على حماس في المرة السابقة والمرة الحالية أيضاً، وفي التسعينيات كانت للرجل صولاته في مطاردة الحركة ورجالاتها، حيث تتهمه بالتعاون مع الإسرائيليين في اغتيال عدد من قادة جناحها العسكري في ذلك الوقت، وعلى رأسهم محيي الدين الشريف والأخوان عادل وعماد عوض الله.
مقابل الرجوب في الضفة هناك محمد دحلان في غزة، وفيما تراجع نفوذ الرجوب خلال المرحلة الماضية فقد صعد دحلان بدعم أميركي دفعه إلى محاولة الانقلاب على رئيس السلطة الراحل ياسر عرفات، الأمر الذي لم ينجح كما هو معروف، فيما بدا أن وقفة حماس إلى جانب عرفات قد ساهمت في ذلك على نحو كبير، الأمر الذي ربما أضاف سبباً آخر لكراهية الحركة في عقل الرجل.
"
دحلان والرجوب لم يتورعا خلال الأسابيع الماضية عن اتهام حماس بمحاولة الانقلاب على السلطة، وإن بشكل عسكري بحسب تعبير دحلان الذي ساوى بينها وبين شارون في نوايا تدمير السلطة
"
دحلان والرجوب لم يتورعا خلال الأسابيع الماضية عن اتهام حماس بمحاولة الانقلاب على السلطة، وإن بشكل عسكري بحسب تعبير دحلان الذي ساوى بينها وبين شارون في نوايا تدمير السلطة، وقد وردت أقواله تلك في سياق مقابلة له مع صحيفة هآرتس الإسرائيلية.
ولا يعرف بالطبع لماذا يريد شارون تدمير السلطة مع أن ذلك لم يكن صعباً بالنسبة إليه، فيما يعرف الجميع أن وجودها كان حاجة ماسة بالنسبة للإسرائيليين كي لا يعودوا إلى زمن الاحتلال المباشر بكل تبعاته الثقيلة سياسياً وأمنياً واقتصادياً.
الآن يطرح السؤال الكبير حول العلاقة بين الطرفين، فيما يبدو من الضروري التذكير من جديد بسيرة العلاقة بينهما أيام أوسلو يوم أصرت حماس على ضبط النفس رغم التجاوزات الرهيبة عليها، فيما قد يكون من المفيد التذكير بالعلاقة بينهما قبل ذلك، أعني أيام صعود الحركة الإسلامية في غزة والضفة إبان الثمانينيات قبل إعلان تأسيس حماس، إذ شهدت تلك الفترة جملة من الصدامات المحدودة بالأسلحة اليدوية بين عناصر من فتح والحركة الإسلامية التي كانت تعرف بالإخوان أو المجمع الإسلامي في غزة.
حدث ذلك عندما تأكد لحركة فتح أن أمامها حركة تنافسها على الجماهير على نحو يختلف عن منافسة حركات اليسار التي ظلت هامشية التأثير بالنسبة للحركة التي مثلت مجموع الفلسطينيين، وقد جاءت نتائج الانتخابات الطلابية في الجامعات الفلسطينية وبعض القطاعات الأخرى لتؤكد هذا البعد، مما دفع فتح إلى فعل المستحيل للحيلولة دون تقدم حماس، لكن الصدام ما لبث أن هدأ قليلاً مع الانتفاضة الأولى، ليتجدد مرة أخرى بعد اتفاق أوسلو الذي رأى فيه الكثيرون محاولة من فتح لوقف تقدم حماس بعد تبنيها الخيار العسكري في قطاع غزة مطلع نهاية الثمانينيات ومطلع التسعينيات.
في ضوء ذلك كله يمكن القول إن التنافس بين حركة فتح وحركة حماس طوال الثمانينيات ومن ثم التسعينيات، بل وحتى ما بعد انتفاضة الأقصى، قد تركز في بعدين؛ يتعلق الأول بالتنافس على الجماهير من خلال العمل النضالي، وفي سياق الانتخابات في القطاعات المختلفة، فيما يتعلق الثاني بالتنافس على السيطرة على مواقع القرار الفلسطيني المرتبط بالسلطة والخدمات.
طوال الوقت يمكن القول إن فتح قد استأثرت بالجزء الثاني، من دون غياب حماس التي وجدت لها صلة مع الناس من خلال الخدمات الاجتماعية والسلطة الموازية، وصولاً إلى البلديات كما هو الحال في الانتخابات الأخيرة التي تجري للمرة الأولى في الأراضي المحتلة عام 67.
أما في الشق الثاني فقد كانت الحركتان هما فرسا الرهان في كل الانتخابات التي تجري في الضفة والقطاع، بل إن استعراضاً لمسيرة تلك الانتخابات خلال الثمانينيات والتسعينيات وصولاً إلى الوقت الراهن، سيؤكد أن ما حصلت عليه الحركتان يكاد يتساوى، فيما يبدو لافتاً أن الفترة التي استلمت فيها حركة فتح السلطة خلال التسعينيات وصولاً إلى انتفاضة الأقصى قد شهدت أفضل مراحل حماس من الناحية الشعبية، على رغم أنها كانت الأسوأ من الناحية العسكرية والاجتماعية بعد استهدافها على هذين الصعيدين.
الآن يعود التنافس من جديد على السلطة وعلى الجماهير في آن معاً، وفيما لم تكن ثمة مخاوف حقيقية من حماس أيام أوسلو وتأسيس السلطة في عام 1994، أعني مخاوف تتعلق بالمنافسة على السلطة، وبالطبع تبعاً لموقف الحركة الرافض لمشروع أوسلو، فإن قبولها هذه المرة الدخول في الانتخابات البلدية ومن ثم التشريعية قد صعد مخاوف فتح على هذا الصعيد، وهو وضع طبيعي كما هو معروف، ليس فقط لأن القيادات والأحزاب الحاكمة العربية لا تحتمل أي شكل من أشكال المنافسة، بل أيضاً لأن المطلوب هو تراجع واضح من حماس في مواجهة السلطة كي ترتب أوراق غزة منفردة, أي ما يشبه الإقرار من طرف الحركة بحق فتح وحدها في ترتيب أوراق ما بعد الانسحاب، لاسيما ما يتعلق بالأراضي التي سينسحب منها الإسرائيليون، والتي تشكل 40% من أراضي القطاع وهي أفضلها على الإطلاق.
"
الآن يعود التنافس من جديد على السلطة وعلى الجماهير في آن معاً، وفيما لم تكن ثمة مخاوف حقيقية من حماس أيام أوسلو وتأسيس السلطة في عام 1994، فإن قبولها هذه المرة الدخول في الانتخابات البلدية ومن ثم التشريعية قد صعد مخاوف فتح
"
ولا تسأل بعد ذلك عن مساعي السلطة أو حركة فتح لترميم شعبيتها تمهيداً للانتخابات التشريعية، وحيث يراد لحماس ألا تحصل على أكثر من ربع مقاعد المجلس المذكور، أكان بشكل طبيعي أم من خلال بعض التزوير أو الفهلوة أو التلاعب الذي لا يثير الإشكالات، لاسيما أن الخارج سيتسامح معه، بدليل أنه لم يجد مشكلة في قبول مقولات أن حماس قد زورت الانتخابات البلدية خلافاً لما يجري في العالم أجمع، حيث السلطات هي المتخصصة في التزوير وليس المعارضة!!
من الضروري الاعتراف هنا بأن خطاب حماس حيال الانتخابات ومتعلقات الانسحاب من غزة قد شكل نوعاً من الإثارة لمخاوف فتح على سلطتها، ومن ذلك مقولة "شركاء في الدم شركاء في القرار"، وما شابهها من عبارات، فضلاً عن معطىً آخر يتعلق بقدرات الحركة العسكرية، وحيث يتوفر لها ما يقرب من ألف وخمسمائة شخص جاهزون لحمل السلاح.
لا يعرف في هذا السياق ما إن كانت المقولات المشار إليها هي لون من ألوان اللغة الدبلوماسية لحركة تدرك أن عناصرها يريدون قطافاً لجهادهم، فيما لا يدرك بعضهم تعقيدات المعادلة السياسية المحلية العربية والدولية التي لا تسمح بذلك، الأمر الذي ينسحب على جمهورها الذي قدم أبناءه ودفع من المعاناة الكثير الكثير، أم أنها لغة تعبر عن قناعة في بعض الأوساط القيادية بإمكانية المواءمة بين رفض الاحتلال واستمرار المقاومة وبين المشاركة في السلطة الجديدة في قطاع غزة أو حتى السيطرة عليها؟
والحال أن القراءة الموضوعية للمشهد، والتي لا بد أن قيادة حماس تدركها، أكان في الداخل، أم في الخارج، ما زالت تقول إن من المستحيل لحركة فتح أن تتسامح في موضوع الهيمنة على السلطة حتى لو ذهبت نحو الاقتتال الداخلي، لاسيما وهي تدرك قدرتها على التفوق بوجود الإسرائيليين والمصريين الذين لا يمكن أن يقبلوا بحماس، فضلاً عن الوضع الدولي الذي قدم للسلطة ثلاثة مليارات دولار لم تتوقعها في قمة الثماني الأخيرة، وبالطبع من أجل ترتيب أوراقها استعداداً للانتخابات، فضلاً عن أن تقبل بمشروع شارون للحل الانتقالي بعيد المدى.
"
المعطيات الراهنة محلياً وعربياً ودولياً لن تسمح لحماس بالمنافسة على السلطة وكسب السمعة والجماهير في آن معاً، وجل ما هو ممكن هو استمرار التعبير عن هموم الفلسطينيين وقناعات الشارع العربي والإسلامي حيال القضية المركزية للأمة
"
ولا تسأل بعد ذلك عن معطيات اللعبة التي لن تسمح لحماس بأن تمارس ازدواجية التسوية والمقاومة في آن، فيما سيكون الميل نحو الأولى مقتلاً لسمعتها وجهادها، الأمر الذي سيسهل ضربها شعبياً، تمهيداً لتصفيتها في الواقع لكون شعاراتها الإسلامية تظل مرفوضة، أقله عربياً حتى لو وافقت على ما ستوافق عليه فتح، الأمر الذي يبدو مستحيلاً بالنسبة لكوادرها وقياداتها في آن معاً.
خلاصة القول هي أن المعطيات الراهنة محلياً وعربياً ودولياً لن تسمح لحماس بالمنافسة على السلطة وكسب السمعة والجماهير في آن معاً، وجل ما هو ممكن هو استمرار التعبير عن هموم الفلسطينيين وقناعات الشارع العربي والإسلامي حيال القضية المركزية للأمة، وهو موقف لن يكون سهلاً هو الآخر، إذ إن المعضلة هنا هي أن فتح ستواصل البحث عن الشعبية وعن السلطة في آن معاً، مما سيدفعها إلى استمرار تشويه وتحجيم حماس بكل الوسائل مستفيدة من الدعم الخارجي اللامحدود.
في مواجهة ذلك ليس أمام حماس سوى التأكيد على خطها التقليدي في رفض الاقتتال الداخلي، مع محاولة المراقبة على أداء السلطة، لاسيما في كل ما يتعلق بهموم الناس، إلى جانب المراقبة على الأداء التفاوضي والإصرار على حق الفلسطينيين في المقاومة من أجل استعادة أرضهم.
وهي مواقف ستمنح حماس المزيد من الشعبية والمصداقية في انتظار عودة جديدة لخيار المقاومة لا بد أن تأتي بعد تغير المعطيات العربية والإقليمية، وبعد أن يتأكد الجميع أن ما يعرضه شارون لا يمكن أن يقبله أحد بحال من الأحوال.
ياسر الزعاترة
طرحت الصدامات المتفرقة التي وقعت خلال شهر تموز/يوليو الماضي بين قوات أمن السلطة الفلسطينية في قطاع غزة، وعناصر من كتائب القسام، الذراع العسكرية لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، أسئلة بشأن العلاقة بين الفريقين خلال المرحلة التي ستعقب الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة، في ذات الوقت الذي طرحت فيه أسئلة مشابهة بشأن المرحلة التي ستسبق الانسحاب، وإن لم تعد هذه مهمة في الوقت الراهن.
من المفيد ابتداءً القول إن ما جرى لم يكن صداماً أو اقتتالاً بالمعنى الحرفي للكلمة، بقدر ما كان استعراضاً للقوة من طرف السلطة تجاه حركة منافسة، وبالطبع في محاولة لدفعها نحو التراجع، أكان في الوقت الراهن، حيث ترتيبات الانسحاب من قطاع غزة ومتعلقاته، أم خلال المرحلة التالية بعد أن تغدو غزة شبه دولة، وإن تكن على مساحة لا تتعدى 362 كيلومترا مربعا لا تساوي أكثر من 6% من مساحة الأراضي المحتلة عام 1967، أو 1.5% من مجموع مساحة فلسطين التاريخية.
هذا التحليل لواقع الصدامات التي جرت ليس من عندنا، ولا يشكل تجنياً على السلطة وحركة فتح، بل هو تحليل تؤكده الوقائع الموضوعية على الأرض. وفي هذا السياق يشير المحلل الإسرائيلي المعروف (ألوف بن) في صحيفة هآرتس (24/7) إلى أن الأميركيين يعتقدون أن "المواجهات بين قوات أمن السلطة وبين رجال حماس في غزة كانت انعطافة مهمة عززت ثقة السلطة بنفسها".
والحال أن القول بأن ما جرى كان صداماً لم يكن واقعياً لأن قوات السلطة هي التي اعترضت عدداً من مقاتلي حماس الذين كانوا بصدد إطلاق الصواريخ على المستوطنات الإسرائيلية، وهي التي أطلقت عليهم النار فيما لم يردوا هم عليها، بدليل أن أحداً من أمن السلطة لم يصب بأذى. أما إذا قيل إن السلطة كانت تريد منع إطلاق الصواريخ فإن الرد هو: لماذا لم يحدث ذلك مع الجهاد أو مع كتائب الأقصى وكتائب أبو الريش التابعة لحركة فتح، مع أن هؤلاء جميعاً كانوا أكثر خرقاً للهدنة وإطلاقاً للصواريخ، وبخاصة حركة الجهاد التي نفذت عملية استشهادية في ناتانيا، فيما جاءت ردود حماس نوعاً من النصرة لها في مواجهة الاستهداف الإسرائيلي.
"
ما جرى بين فتح وحماس لم يكن صداماً لأن قوات السلطة هي التي اعترضت عدداً من مقاتلي حماس الذين كانوا بصدد إطلاق الصواريخ على المستوطنات الإسرائيلية، وهي التي أطلقت عليهم النار فيما لم يردوا هم عليها
"
حماس إذن هي التي كانت مقصودة وليس الحيلولة دون خرق الهدنة، على أهمية هذا الموضوع بالنسبة للسلطة في ظل القناعة بضرورة عدم خرقها كي لا يتعطل الانسحاب من قطاع غزة، ولو كان هذا البعد الأخير هو المقصود بصرف النظر عن الجهة المعنية لكان الصدام مع الجهاد أكبر، فضلاً عن أجنحة فتح التي لم تتوقف عن خرق الهدنة هي الأخرى، على رغم أن بعض عناصرها قد شارك في الصدام مع حماس تحت ذات الذريعة!!
من متابعة تصريحات القادة الفلسطينيين المعنيين أكثر من سواهم بملف مطاردة حماس وتحجيمها منذ مطلع أوسلو، يتبين لنا أن المقصود هو بالفعل تحجيم الحركة قبل وبعد الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة، تمهيداً لاستحقاقات القادم على صعيد القطاع، وعلى صعيد تمرير اللعبة السياسية التالية بصرف النظر عن مخرجاتها السياسية، تماما كما كان عليه الحال أيام أوسلو يوم أطلق جنود السلطة النار على المصلين أمام جامع فلسطين في قطاع غزة، فيما جرى اعتقال العديد من قادة وكوادر الحركة، بل وإهانتهم في كثير من الأحيان، فضلاً عن التعاون مع المحتلين في سياق تصفيتهم.
جبريل الرجوب، قائد الأمن الوقائي السابق في الضفة الغربية كان عنوان التحريض الأول على حماس في المرة السابقة والمرة الحالية أيضاً، وفي التسعينيات كانت للرجل صولاته في مطاردة الحركة ورجالاتها، حيث تتهمه بالتعاون مع الإسرائيليين في اغتيال عدد من قادة جناحها العسكري في ذلك الوقت، وعلى رأسهم محيي الدين الشريف والأخوان عادل وعماد عوض الله.
مقابل الرجوب في الضفة هناك محمد دحلان في غزة، وفيما تراجع نفوذ الرجوب خلال المرحلة الماضية فقد صعد دحلان بدعم أميركي دفعه إلى محاولة الانقلاب على رئيس السلطة الراحل ياسر عرفات، الأمر الذي لم ينجح كما هو معروف، فيما بدا أن وقفة حماس إلى جانب عرفات قد ساهمت في ذلك على نحو كبير، الأمر الذي ربما أضاف سبباً آخر لكراهية الحركة في عقل الرجل.
"
دحلان والرجوب لم يتورعا خلال الأسابيع الماضية عن اتهام حماس بمحاولة الانقلاب على السلطة، وإن بشكل عسكري بحسب تعبير دحلان الذي ساوى بينها وبين شارون في نوايا تدمير السلطة
"
دحلان والرجوب لم يتورعا خلال الأسابيع الماضية عن اتهام حماس بمحاولة الانقلاب على السلطة، وإن بشكل عسكري بحسب تعبير دحلان الذي ساوى بينها وبين شارون في نوايا تدمير السلطة، وقد وردت أقواله تلك في سياق مقابلة له مع صحيفة هآرتس الإسرائيلية.
ولا يعرف بالطبع لماذا يريد شارون تدمير السلطة مع أن ذلك لم يكن صعباً بالنسبة إليه، فيما يعرف الجميع أن وجودها كان حاجة ماسة بالنسبة للإسرائيليين كي لا يعودوا إلى زمن الاحتلال المباشر بكل تبعاته الثقيلة سياسياً وأمنياً واقتصادياً.
الآن يطرح السؤال الكبير حول العلاقة بين الطرفين، فيما يبدو من الضروري التذكير من جديد بسيرة العلاقة بينهما أيام أوسلو يوم أصرت حماس على ضبط النفس رغم التجاوزات الرهيبة عليها، فيما قد يكون من المفيد التذكير بالعلاقة بينهما قبل ذلك، أعني أيام صعود الحركة الإسلامية في غزة والضفة إبان الثمانينيات قبل إعلان تأسيس حماس، إذ شهدت تلك الفترة جملة من الصدامات المحدودة بالأسلحة اليدوية بين عناصر من فتح والحركة الإسلامية التي كانت تعرف بالإخوان أو المجمع الإسلامي في غزة.
حدث ذلك عندما تأكد لحركة فتح أن أمامها حركة تنافسها على الجماهير على نحو يختلف عن منافسة حركات اليسار التي ظلت هامشية التأثير بالنسبة للحركة التي مثلت مجموع الفلسطينيين، وقد جاءت نتائج الانتخابات الطلابية في الجامعات الفلسطينية وبعض القطاعات الأخرى لتؤكد هذا البعد، مما دفع فتح إلى فعل المستحيل للحيلولة دون تقدم حماس، لكن الصدام ما لبث أن هدأ قليلاً مع الانتفاضة الأولى، ليتجدد مرة أخرى بعد اتفاق أوسلو الذي رأى فيه الكثيرون محاولة من فتح لوقف تقدم حماس بعد تبنيها الخيار العسكري في قطاع غزة مطلع نهاية الثمانينيات ومطلع التسعينيات.
في ضوء ذلك كله يمكن القول إن التنافس بين حركة فتح وحركة حماس طوال الثمانينيات ومن ثم التسعينيات، بل وحتى ما بعد انتفاضة الأقصى، قد تركز في بعدين؛ يتعلق الأول بالتنافس على الجماهير من خلال العمل النضالي، وفي سياق الانتخابات في القطاعات المختلفة، فيما يتعلق الثاني بالتنافس على السيطرة على مواقع القرار الفلسطيني المرتبط بالسلطة والخدمات.
طوال الوقت يمكن القول إن فتح قد استأثرت بالجزء الثاني، من دون غياب حماس التي وجدت لها صلة مع الناس من خلال الخدمات الاجتماعية والسلطة الموازية، وصولاً إلى البلديات كما هو الحال في الانتخابات الأخيرة التي تجري للمرة الأولى في الأراضي المحتلة عام 67.
أما في الشق الثاني فقد كانت الحركتان هما فرسا الرهان في كل الانتخابات التي تجري في الضفة والقطاع، بل إن استعراضاً لمسيرة تلك الانتخابات خلال الثمانينيات والتسعينيات وصولاً إلى الوقت الراهن، سيؤكد أن ما حصلت عليه الحركتان يكاد يتساوى، فيما يبدو لافتاً أن الفترة التي استلمت فيها حركة فتح السلطة خلال التسعينيات وصولاً إلى انتفاضة الأقصى قد شهدت أفضل مراحل حماس من الناحية الشعبية، على رغم أنها كانت الأسوأ من الناحية العسكرية والاجتماعية بعد استهدافها على هذين الصعيدين.
الآن يعود التنافس من جديد على السلطة وعلى الجماهير في آن معاً، وفيما لم تكن ثمة مخاوف حقيقية من حماس أيام أوسلو وتأسيس السلطة في عام 1994، أعني مخاوف تتعلق بالمنافسة على السلطة، وبالطبع تبعاً لموقف الحركة الرافض لمشروع أوسلو، فإن قبولها هذه المرة الدخول في الانتخابات البلدية ومن ثم التشريعية قد صعد مخاوف فتح على هذا الصعيد، وهو وضع طبيعي كما هو معروف، ليس فقط لأن القيادات والأحزاب الحاكمة العربية لا تحتمل أي شكل من أشكال المنافسة، بل أيضاً لأن المطلوب هو تراجع واضح من حماس في مواجهة السلطة كي ترتب أوراق غزة منفردة, أي ما يشبه الإقرار من طرف الحركة بحق فتح وحدها في ترتيب أوراق ما بعد الانسحاب، لاسيما ما يتعلق بالأراضي التي سينسحب منها الإسرائيليون، والتي تشكل 40% من أراضي القطاع وهي أفضلها على الإطلاق.
"
الآن يعود التنافس من جديد على السلطة وعلى الجماهير في آن معاً، وفيما لم تكن ثمة مخاوف حقيقية من حماس أيام أوسلو وتأسيس السلطة في عام 1994، فإن قبولها هذه المرة الدخول في الانتخابات البلدية ومن ثم التشريعية قد صعد مخاوف فتح
"
ولا تسأل بعد ذلك عن مساعي السلطة أو حركة فتح لترميم شعبيتها تمهيداً للانتخابات التشريعية، وحيث يراد لحماس ألا تحصل على أكثر من ربع مقاعد المجلس المذكور، أكان بشكل طبيعي أم من خلال بعض التزوير أو الفهلوة أو التلاعب الذي لا يثير الإشكالات، لاسيما أن الخارج سيتسامح معه، بدليل أنه لم يجد مشكلة في قبول مقولات أن حماس قد زورت الانتخابات البلدية خلافاً لما يجري في العالم أجمع، حيث السلطات هي المتخصصة في التزوير وليس المعارضة!!
من الضروري الاعتراف هنا بأن خطاب حماس حيال الانتخابات ومتعلقات الانسحاب من غزة قد شكل نوعاً من الإثارة لمخاوف فتح على سلطتها، ومن ذلك مقولة "شركاء في الدم شركاء في القرار"، وما شابهها من عبارات، فضلاً عن معطىً آخر يتعلق بقدرات الحركة العسكرية، وحيث يتوفر لها ما يقرب من ألف وخمسمائة شخص جاهزون لحمل السلاح.
لا يعرف في هذا السياق ما إن كانت المقولات المشار إليها هي لون من ألوان اللغة الدبلوماسية لحركة تدرك أن عناصرها يريدون قطافاً لجهادهم، فيما لا يدرك بعضهم تعقيدات المعادلة السياسية المحلية العربية والدولية التي لا تسمح بذلك، الأمر الذي ينسحب على جمهورها الذي قدم أبناءه ودفع من المعاناة الكثير الكثير، أم أنها لغة تعبر عن قناعة في بعض الأوساط القيادية بإمكانية المواءمة بين رفض الاحتلال واستمرار المقاومة وبين المشاركة في السلطة الجديدة في قطاع غزة أو حتى السيطرة عليها؟
والحال أن القراءة الموضوعية للمشهد، والتي لا بد أن قيادة حماس تدركها، أكان في الداخل، أم في الخارج، ما زالت تقول إن من المستحيل لحركة فتح أن تتسامح في موضوع الهيمنة على السلطة حتى لو ذهبت نحو الاقتتال الداخلي، لاسيما وهي تدرك قدرتها على التفوق بوجود الإسرائيليين والمصريين الذين لا يمكن أن يقبلوا بحماس، فضلاً عن الوضع الدولي الذي قدم للسلطة ثلاثة مليارات دولار لم تتوقعها في قمة الثماني الأخيرة، وبالطبع من أجل ترتيب أوراقها استعداداً للانتخابات، فضلاً عن أن تقبل بمشروع شارون للحل الانتقالي بعيد المدى.
"
المعطيات الراهنة محلياً وعربياً ودولياً لن تسمح لحماس بالمنافسة على السلطة وكسب السمعة والجماهير في آن معاً، وجل ما هو ممكن هو استمرار التعبير عن هموم الفلسطينيين وقناعات الشارع العربي والإسلامي حيال القضية المركزية للأمة
"
ولا تسأل بعد ذلك عن معطيات اللعبة التي لن تسمح لحماس بأن تمارس ازدواجية التسوية والمقاومة في آن، فيما سيكون الميل نحو الأولى مقتلاً لسمعتها وجهادها، الأمر الذي سيسهل ضربها شعبياً، تمهيداً لتصفيتها في الواقع لكون شعاراتها الإسلامية تظل مرفوضة، أقله عربياً حتى لو وافقت على ما ستوافق عليه فتح، الأمر الذي يبدو مستحيلاً بالنسبة لكوادرها وقياداتها في آن معاً.
خلاصة القول هي أن المعطيات الراهنة محلياً وعربياً ودولياً لن تسمح لحماس بالمنافسة على السلطة وكسب السمعة والجماهير في آن معاً، وجل ما هو ممكن هو استمرار التعبير عن هموم الفلسطينيين وقناعات الشارع العربي والإسلامي حيال القضية المركزية للأمة، وهو موقف لن يكون سهلاً هو الآخر، إذ إن المعضلة هنا هي أن فتح ستواصل البحث عن الشعبية وعن السلطة في آن معاً، مما سيدفعها إلى استمرار تشويه وتحجيم حماس بكل الوسائل مستفيدة من الدعم الخارجي اللامحدود.
في مواجهة ذلك ليس أمام حماس سوى التأكيد على خطها التقليدي في رفض الاقتتال الداخلي، مع محاولة المراقبة على أداء السلطة، لاسيما في كل ما يتعلق بهموم الناس، إلى جانب المراقبة على الأداء التفاوضي والإصرار على حق الفلسطينيين في المقاومة من أجل استعادة أرضهم.
وهي مواقف ستمنح حماس المزيد من الشعبية والمصداقية في انتظار عودة جديدة لخيار المقاومة لا بد أن تأتي بعد تغير المعطيات العربية والإقليمية، وبعد أن يتأكد الجميع أن ما يعرضه شارون لا يمكن أن يقبله أحد بحال من الأحوال.
تعليق