أوقات الفراغ.. اللبن المسكوب
ايفانوف



الفراغ.. هو ذلك الغول المخيف الذي يفترس الإنسان العاطل.. وهو من أقوى أسلحة الشيطان ضد الشباب.. إن أضرار الفراغ على النشء والمجتمع، وما قد يسببه من جنوح وانحراف للشباب، لخطرٌ كبيرٌ، فالفراغ ينعكس على صورة الفرد عن ذاته؛ حيث يرى نفسه وقد أصبح بلا جدوى، ولا منفعة منه، أصبح إنسانًا بلا هدف، وحياة بلا روح، لا معنى لوجوده، مما يجعله يبحث عن الهروب، والميل إلى الحيل النفسية، بعيدًا عن المواجهة وتحمل المسئولية، فتجده قد يستخدم المسكرات والمخدرات والبحث عن الرذيلة؛ علَّه يجد متعة أو لذة.

ولقد بينت الأبحاث والدراسات؛ التي أُجريت على مرتكبي الجرائم والمخالفات، أن الفراغ هو المحرك لكل النوازع المكبوتة، والرغبات الشهوانية، وما لم يتنبه المخططون ورجال الفكر والتربية - ومعهم أولا وقبل كل شيء الآباء والأمهات- لذلك؛ فالمجتمعات التي لا تستثمر شبابها إنما هي مجتمعات أعتبرها تنتحر انتحارًا بطيئا.

وإنني لأعجب كل العجب من تلك الدول المسلمة؛ التي تعيش عالة على ما تنتجه العقول الشرقية والغربية، في شتي مجالات الحياة، وتترك شبابها نهبًا للفراغ والضياع..

لماذا لا نقيم معسكرات عمل للشباب على جميع الجبهات، وعلى كل المستويات، وكأنه استنفار عام، وتعبئة شاملة؟.
لماذا لا نقيم للشباب معسكرات للتدريب العسكري في فترات إجازاتهم؛ لننمى فيهم روح البطولة، ولتكون بمثانة متنفس نظيف لطاقاتهم المحبوسة في كيانهم؟.

لماذا لا تقوم الأجهزة المسئولة عن الشباب، في كل بلد مسلم، بإقامة المعسكرات الإسلامية، وإقامة النوادي (النظيفة)؛ التي تستمد لوائحها ونظامها من خلق الإسلام وسلوكه؟.

والإجابة.. لا أدرى.. إن ذلك أيضًا ضرب من ضروب الكسل والإهمال وسوء التخطيط؛ الذي أصبح - وللأسف الشديد- سمة لعامة المجتمعات الإسلامية في هذا العصر.

ونحن نعلم كيف كان موقع الشباب في صدر الإسلام، وكيف أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لم يترك شبابه وقودًا هشًا لنار الفراغ المحرقة..فلا عجب إذا رأينا رجلا مثل مونتجمري وات يقول، في كتابه "محمد في مكة" "إن الإسلام كان في الأساس حركة شباب".

نعم.. كان حركة شباب، وبسواعدهم ارتفع البناء شامخًا يناطح السماء.. حتى قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ذات مرة: (إن صحت الرواية) استوصوا بالشباب خيرًا فأنهم أرق أفئدة، فالله بعثني بالحنيفية السمحة، فصدقني الشباب، حين كذبني الشيوخ.
وعلى هذا النهج السامي في تربية الشباب سار خلفاء رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فنجد عمر (رضي الله عنه) يخاف على الشباب غوائل الفراغ، فينبه ولاته إلى ذلك، قائلا لأحدهم: "يا هذا، إن الله قد خلق الأيدي لتعمل، فإذا لم تجد في طاعة عملا التمست في المعصية أعمالا، فاشغلها بالطاعة قبل أن تشغلك المعصية".

ويوجه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) النظر إلى أن الوقت من النعم؛ التي لا يشعر بها الإنسان، فيقول: "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ".

ويصور الحق (تبارك وتعالى) مشاهد الحسرة؛ التي تقطع نياط قلوب الغافلين عند الموت، فيقول (جل وعلا): (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ* لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (المؤمنون:100).

(رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ*وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (المنافقون: 10، 11).

ولأن هذه الأعمار كانت خرابًا وصفرًا من كل عمل نافع من الأعمال الصالحة.. فإن أصحابها يتوهمون أن عشرات السنين التي مكثوا فيها على الأرض ما هي إلا ساعة، أو عشية وضحاها، أو يومًا أو بعض يوم: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ) (الروم: 55).

(كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّاعَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا) (النازعـات: 46).

(قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فاسْأَلِ الْعَادِّينَ) (المؤمنون: 112،113).

فوقت الإنسان هو عمره، وهو أغلى من الذهب؛ لأن الذهب يذهب ويعود، والعمر إذا ذهب فإنه لا يعود، فحياتك أنفاس تُعَد، فكلما مضى نفَس منك انتقصت به جزءًا، فتصبح في نقص وتمسى بمثله، وليته إذا مضى لا يخلف آثارًا ولا تبعات، ولكن يُسأل عنه كل إنسان في ساحات القيامة، فقد قال (صلى الله عليه وسلم): "لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن عمره فيمَ أفناه، وعن علمه فيما فعل، وعن ماله من أين اكتسبه، وفيم أنفقه، وعن جسمه فيمَ أبلاه"، إن مرحلة الشباب - يا شباب- هي مرحلة الطاقة المتوقدة، والحيوية المتدفقة، والعطاء بغير حدود.. والفترة التي تستطيع فيها أن تصنع العجائب.. آمالك ومستقبلك إذا لم يتحقق في هذه المرحلة فعليك العفاء..

إذا المرء أعيته المروءة ناشئًا فمطلبها كهلا عليه عسير

يقول عالم النفس وليم جيمس:
"إذا قسنا أنفسنا إلى ما يجب أن نكون عليه لاتضح لنا أننا أنصاف أحياء؛ فإننا لا نستخدم إلا جانبًا يسيرًا في حدود ضيقة.. إن الشاب يمتلك قوى كثيرة مختلفة.. ولكنه عادة لا يفطن لها، أو يخفق في استخدامها".

أتعرف - يا صديقي الشاب- أن الفراغ الذي تعاني منه قد حدا بعمالقة البشر إلى أن يستثمروه في الحصول على بطولات رياضية، أو انتصارات علمية، تنعَم البشرية في ظلها اليوم، ففرضوا أنفسهم على الناس أحياءً وأمواتًا، ولم يذهبوا كغثاء السيل، ولم يرضوا لأنفسهم أن يكونوا نسخًا مكررة من ملايين النسخ؛ التي تشاهدها في النماذج البشرية كل يوم، وإنما رحلوا عن الدنيا وقد تركوا بصماتهم عليها..

والفتاة المسلمة أيضًا، ينبغي علينا أن تقيم لها النوادي المغلقة الخاصة بها؛ لتمارس فيها نشاطها الاجتماعي والرياضي، وعليها أن تشغل أوقات فراغها بالتفصيل والتطريز والقراءة والتمريض.. وأن تُعِد نفسها لتكون زوجة مثالية، وأمًّا مثقفة، ينعكس ظل ثقافتها على تربية أولادها، بل على مجتمعها المسلم أيضًا.

تقول "دروثى كارنيجى": كثيرون هم الناجحون الذين بلغوا ذروة النجاح، معتمدين على ما جنوه من علم ومعرفة، خلال أوقات فراغهم..

بل كان (تشارلس فروست) إسكافيًّا، ولكنه استطاع أن يصبح من البارزين في الرياضيات، بتخصيص ساعة واحدة من يومه للدراسة.

وكان (جون هتنر) نجارًا.. ثم شرع يدرس (التشريح المقارن) في أوقات فراغه، مخصصًا لنومه أربع ساعات وحسبَ من الليل، حتى أصبح حجة في هذا الميدان..

واستطاع (سير جون لايوك) أن يقتطع من يومه المزدحم بالعمل، بوصفه مديرًا لأحد المصارف، ساعات يقضيها في دراسة التاريخ، حتى أصبح علمًا بين المؤرخين.

وهل تعلم أيضًا - عزيزي الشاب- أن (جورج ستيفنسون) تعلّم الحساب في أوقات نوباته الليلية، بصفته مهندسًا، ووسعه مستعينًا بهذا العلم أن يخترع القاطرة؟.

وأن "جيمس واط" درس الكيمياء والرياضة في أثناء اشتغاله بالتجارة، فأمكنه أن يخترع المحرك البخاريّ؟.

واللهِ كم كان يخسر المجتمع الإنساني لو أن هؤلاء الرجال قنعوا بأعمالهم المتواضعة، ولم يجدوا في أنفسهم دافعًا للاستزادة من العلم والمعرفة..

ولا يلومن أحدٌ إلا نفسه إذا لبث مغمورًا مجهولا؛ لأنه تخلى عن متابعة العلم، منذ اللحظة التي أُدرِج فيها اسمه في كشف المرتبات".

عزيزي الشاب، إذا لم تشغل نفسك بالحق شغلتك بالباطل، وقد يهجس لك الشيطان، فيغريك به، ويمد لك في حبال الأمانيّ الكاذبة، فيقول لك: إنك ما زلت صغيرًا، في عمر الشباب، وما زال العمر ممتدًا لتحقيق الآمال، ولكنها وساوس خبيثة، تجعل الشاب بعد أن أصبح في عداد الشيوخ ينظر إلى عمره الذي ولى وكأنه حلم نائم..

يقول "ستيفن ليكوك": ما أعجب الحياة، يقول الطفل: عندما أشب فأصبح غلامًا.. ويقول الغلام: عندما أترعرع فأصبح شابًا.. ويقول الشاب: عندما أتزوج.. فإذا تزوج قال: عندما أصبح شيخًا متفرغًا.. فإذا واتته الشيخوخة، تطلع إلى المرحلة التي قطعها من عمره، فإذا هي تلوح كأن ريحًا اكتسحتها اكتساحًا.. إننا لا نتعلم إلا بعد فوات الأوان، أن قيمة الحياة في أن نحياها، وفي أن نحيا كل يوم منها، وكل ساعة".

إننا في حاجة إلى علماء مسلمين في كل ميادين الحياة، حتى يقدموا العطاء الكبير لهذا الدين، ولن يتمكنوا من العمل لهذه الغاية النبيلة - من خلال هذه المجالات- إلا إذا كانوا علماء فيها، ولن يكونوا علماء فيها إلا إذا سخروا أوقات فراغهم لبلوغ هذا الهدف العظيم..

وأخيرًا تأمل معي قول الشاعر :
اثنان لو بكت الدماء عليهمـا عيناي حتى يؤذنا بذهـاب
لم يبلغا المعشار من حقيهما فقد الشباب وفرقة الأحباب