ما أن جلستُ على طاولة الإفطار في القاعة التي سأتحدّث بها بعد دقائق للعرب الأمريكيين في مؤتمر الأي دي سي (لجنة مكافحة التمييز) في واشنطن إلى أن بادرت شابّة عربية تجلس قبالتي بالقول لي: "آمل أنكِ لستِ قادمةً هنا للحديث عن فلسطين" فأجبتها: طبعاً أنا قادمة للحديث عن فلسطين وعن الجولان وعن الشهداء والأسرى وعن قضايانا التي تلامس وجدان كلّ عربيّ يعتزّ بعروبته وضمائر كلّ الأحرار في العالم وأردفتُ أسألها، لماذا لا تريدين مني أن أتحدث عن فلسطين أتهون عليكِ مصيبة الطفلة هدى غالية وغيرها من أهلنا هناك؟ أجابت، لا ولكنّ المسؤولين العرب يأتون إلى واشنطن ليتحدّثوا عن أمور عربية عامة بدلاً من أن يدخلوا بتفاصيل الحديث عن بلدانهم والتي نريد أن نسمع عنها أكثر وأكثر. واكتشفتُ بعدئذٍ من خلال محاضرتي ومحاضرات أخرى حضرتها أن كلّ ما تريد أن تسمعه هذه الصبيّة وأمثالها هو نقاط الملامة لما يحدث في العالم العربي، لا لكي يتم إصلاح الخلل حيثما وُجِدَ، ولكن لكي يتم أخذه كذريعة تبرهن للعالم أن ما يجري في فلسطين والعراق من جرائم ضدّ العرب تعود أسبابها إلى أنّ العرب غير قادرين على الحياة الحرّة الكريمة ولذلك لا بدّ من استغلال ثرواتهم من قبل الآخرين لأنهم غير قادرين على استغلالها!! وكأنّ البلدان التي تقتل وتعذّب وتسجن يحقّ لها أن تنصّب من نفسها حكماً على بلداننا. هذا لا يعني أبداً أنه ليس علينا نحن العرب مواجهة أخطائنا والنظر إلى أنفسنا في المرآة، ولكن لكلّ شيء زمانه ومكانه المناسبين. بالمقابل وجدتُ في اجتماعات لجنة مكافحة التمييز أشخاصاً من جنسيات أمريكية ومن أتباع ديانات مختلفة يدينون بكل جرأة واقتدار الجرائم الإسرائيلية بحقّ الفلسطينيين والوضع المأساوي في العراق والذي تسبّب به الاحتلال الأمريكي للعراق. ومن هؤلاء من يعمل في الفكر والصحافة والإعلام ومن على منابر مختلفة لنصرة الحقّ والعدالة في الشرق الأوسط. وكنتُ في صباح اليوم ذاته أقرأُ عن نتائج التحقيق مع محمود رافع في لبنان والذي اعترف باغتيال المقاومين الأخوين نضال ومحمود المجذوب واغتيال المقاوم علي حسن ديب المعروف بـ "أبو حسن سلامة" واغتيال المقاوم جهاد جبريل والمقاوم ديب صالح وبوضع عبوات أخرى لم تنفجر واستعرضّتُ في ذاكرتي انفجارات واغتيالات أخرى لم يتم إلقاء القبض على مسببيها بعد والتي يصحُّ فيها القول "أسأل عن المستفيد تعرف من قام بالجريمة"، فمن هو المستفيد من تفجير المقاومين في لبنان وفلسطين ومن اغتيال أفضل الكوادر والطاقات والخبرات في العراق؟ ومن هو المستفيد من زرع بذور الفرقة والاقتتال بين الأخوة ومن هو المستفيد من إزاحة اسم فلسطين من قائمة المواضيع العالمية بما فيها المواضيع على لائحة مؤتمرات الأمريكان من أصل عربيّ؟ أولم يسمع من ينهي عن الحديث عن فلسطين بأن غولدامائير قالت "لا يوجد شيء اسمه فلسطينيون ولا شيء اسمه فلسطين"، وهل هي الصدفة المحضة التي تدفع بالبعض أن يستخدموا المنطق ذاته الذي يستخدمه أعداؤنا بذريعة الحديث عن الديمقراطية وحقوق الإنسان في البلدان العربية كي يتم إلغاء حق الحياة للفلسطينيين على أرض فلسطين والتي هي أرضهم وأرض أجدادهم. وهذا لا يعني طبعاً أن كلّ من يطالب بعدم الحديث عن فلسطين مخترق أو يعمل لصالح جهة مشبوهة، ولكنّ الاختراق الذهني والفكري والمفهوماتي وصل حداً بحيثُ أخذ كثيرون من العرب يعملون ضدّ ذاتهم وضدّ مصلحة بلدانهم ومستقبل أمتهم، ربما من حيثُ لا يعلمون.
وهنا يتضح أنّ الاختراق نوعان، نوع واضح وتقليدي من أمثال محمود رافع وأمثال جيش لبنان الجنوبي، الذي كان يعمل علناً ضدّ المقاومة وضدّ لبنان ومصلحة لبنان ومستقبل لبنان، ولصالح العدوّ الإسرائيلي، واختراق آخر يقبل المنطق الذي يستهدفه، ويتبنّاه دون جدل أو نقاش أو تفكير، بل يشعر أنه كي يحظى باحترام الآخر لا بدّ وأن يتقبل منطقه ويدافع عنه، خاصة وأنّ الأمّة العربيّة، والإسلاميّة، أيضاً تقبع في قفص الاتهام ولذلك فإنّ الدفاع عنها قد يودي بالمدافعين أيضاً إلى قفص الاتهام. ولكي يبرؤوا أنفسهم من هذه التهمة لا بدّ وأن يتخلّصوا من الحديث عن فلسطين وجرائم إسرائيل اليومية ضدّ الأطفال والرجال والنساء في فلسطين ويستغرقوا في التفريق بين العربيّ والإفريقي في دارفور رغم أن سحنتهم السمراء وحياتهم المشتركة تجعل هذا التفريق بحكم المستحيل، ولا بدّ من أن يميّزوا بين السنّة والشيعة في العراق رغم الحياة المشتركة والتزاوج والإرث الثقافي والأخلاقي المشترك بذريعة الحديث عن الديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم العربيّ.
ولهؤلاء الذين يعانون من ظاهرة الاختراق الفكري والسياسي والمعلوماتي، ربما دون أن يدركوا ذلك، أقول إنّ الديمقراطية المبتغاة، أو التي يتمّ الحديث عنها في الغرب لصالح العالم العربي، تختلف جذرياً عن الديمقراطية التي يطبقها الغرب في بلدانه. ففي الوقت الذي تُعتَبَر الديمقراطية في الغرب تتويجاً لمستوى حياة ثقافية وتعليمية واقتصادية واجتماعية رفيعة أتى الإدعاء بالديمقراطية على العراق، مثلاً، بالخراب والدمار والقتل والتفريق الطائفي وانعدام الأمن واستحالة الحياة الطبيعية فيه. فالمعارك الديمقراطية في الغرب تعتمد على التنافس في رفع مستوى الحياة، وانخفاض البطالة، وتحقيق المساوة بين الجنسين، فعلى ماذا تعتمد الديمقراطية في العراق وفلسطين؟ على تفتيت العراق إلى قبائل وأحزاب وطوائف وأعراق، وعلى إقامة دولة يهودية في فلسطين يتمّ التنكر الكامل فيها لحقوق المسلمين والمسيحيين وكلّ السكان الأصليين لصالح مستعمرين قادمين يغتصبون الحقوق والأرض والمياه بقوّة السلاح؟ وفي الوقت الذي ترجمت الدول الأوربية ديمقراطيتها إلى انفتاح في الحدود وتوسيع آفاق العمل والحياة والحركة لمواطني خمس وعشرين دولة، يصدّرون ديمقراطية إلى بلاد الشام تعزل كل بلد صغير فيها عن الآخر وتنادي بإقامة الحواجز وإغلاق الحدود وعدم التعامل والتعاون بين هذه البلدان، مما يشكّل عقبة كبيرة في طريق ازدهارها الاقتصادي وانتعاشها الثقافي والاجتماعي و انخفاض مستوى الحياة لجميع أبنائها. ولهؤلاء المخترقين دون أن يدركوا نقول إنّ الانفتاح والتكامل بين البلدان العربية هما شرطان أساسيان لإرساء أسس لديمقراطيات قابلة للحياة والمنافسة على المستوى العالمي.
ولكن وإلى أن يصبح ذلك ممكناً لا بدّ لنا في هذه المرحلة من الاستفادة من كلّ القوى الحرّة في العالم، والتي هي في أكثر الأحيان أقدر على اتخاذ موقف مساند للحقّ العربيّ والعدالة من بعض العرب الذين آمنوا بالتهم الموجّهة إليهم بأنهم مذنبون وينخرطون في معظم الأحايين بأعمال تهدف إلى تبرئتهم من هذه التهم. ولتلك الشابة، التي لم أحرص أن أتعرّف على اسمها، لأنها نموذج لشريحة مخترقة فكرياً، أقول إنّ بدعة الحديث عن أداء الأنظمة العربية تهدف أولاً وقبل كلّ شيء لمنع الحديث عن فلسطين والفلسطينيين. لا شكّ أنّ هناك عملاً ملحاً على العرب أن يقوموا به لأوطانهم ولصالح أجيالهم ولكن لا بدّ لهذا العمل من أن ينطلق من منظور عربيّ مؤمن بتاريخ العرب وثقافتهم وحضارتهم وقدرتهم على مواجهة التحديات، لكي يستقطب الأحرار في العالم لدعم حقّ العرب في أرضهم وحقّهم في سلام عادل وشامل في الشرق الأوسط يعيد الحقوق إلى أصحابها الشرعيين. ولكن كي يتمّ ذلك لا بدّ من مواجهة الاختراقات العملية، كما هي شبكات التجسس الإسرائيلية، والفكرية، والتي من الأصعب، ولكن من الأهمية بمكان، كشفها ومعالجتها. و لا بدّ من أن تبقى فلسطين دائماً في قلب كلّ عربي و يبقى الحديث عنها و عن الأراضي العربية المحتلة محورنا الأساسي و تبقى العروبة الانتماء الذي لا بديل عنه لنا جميعاً لأنها شرط لا بدّ منه لإحلال الديمقراطية الحقيقية في العالم العربي■
بقلم:د. بثينة شعبان
رأيكم يا جماعه الخير.............
لكم راق تحياتي
وهنا يتضح أنّ الاختراق نوعان، نوع واضح وتقليدي من أمثال محمود رافع وأمثال جيش لبنان الجنوبي، الذي كان يعمل علناً ضدّ المقاومة وضدّ لبنان ومصلحة لبنان ومستقبل لبنان، ولصالح العدوّ الإسرائيلي، واختراق آخر يقبل المنطق الذي يستهدفه، ويتبنّاه دون جدل أو نقاش أو تفكير، بل يشعر أنه كي يحظى باحترام الآخر لا بدّ وأن يتقبل منطقه ويدافع عنه، خاصة وأنّ الأمّة العربيّة، والإسلاميّة، أيضاً تقبع في قفص الاتهام ولذلك فإنّ الدفاع عنها قد يودي بالمدافعين أيضاً إلى قفص الاتهام. ولكي يبرؤوا أنفسهم من هذه التهمة لا بدّ وأن يتخلّصوا من الحديث عن فلسطين وجرائم إسرائيل اليومية ضدّ الأطفال والرجال والنساء في فلسطين ويستغرقوا في التفريق بين العربيّ والإفريقي في دارفور رغم أن سحنتهم السمراء وحياتهم المشتركة تجعل هذا التفريق بحكم المستحيل، ولا بدّ من أن يميّزوا بين السنّة والشيعة في العراق رغم الحياة المشتركة والتزاوج والإرث الثقافي والأخلاقي المشترك بذريعة الحديث عن الديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم العربيّ.
ولهؤلاء الذين يعانون من ظاهرة الاختراق الفكري والسياسي والمعلوماتي، ربما دون أن يدركوا ذلك، أقول إنّ الديمقراطية المبتغاة، أو التي يتمّ الحديث عنها في الغرب لصالح العالم العربي، تختلف جذرياً عن الديمقراطية التي يطبقها الغرب في بلدانه. ففي الوقت الذي تُعتَبَر الديمقراطية في الغرب تتويجاً لمستوى حياة ثقافية وتعليمية واقتصادية واجتماعية رفيعة أتى الإدعاء بالديمقراطية على العراق، مثلاً، بالخراب والدمار والقتل والتفريق الطائفي وانعدام الأمن واستحالة الحياة الطبيعية فيه. فالمعارك الديمقراطية في الغرب تعتمد على التنافس في رفع مستوى الحياة، وانخفاض البطالة، وتحقيق المساوة بين الجنسين، فعلى ماذا تعتمد الديمقراطية في العراق وفلسطين؟ على تفتيت العراق إلى قبائل وأحزاب وطوائف وأعراق، وعلى إقامة دولة يهودية في فلسطين يتمّ التنكر الكامل فيها لحقوق المسلمين والمسيحيين وكلّ السكان الأصليين لصالح مستعمرين قادمين يغتصبون الحقوق والأرض والمياه بقوّة السلاح؟ وفي الوقت الذي ترجمت الدول الأوربية ديمقراطيتها إلى انفتاح في الحدود وتوسيع آفاق العمل والحياة والحركة لمواطني خمس وعشرين دولة، يصدّرون ديمقراطية إلى بلاد الشام تعزل كل بلد صغير فيها عن الآخر وتنادي بإقامة الحواجز وإغلاق الحدود وعدم التعامل والتعاون بين هذه البلدان، مما يشكّل عقبة كبيرة في طريق ازدهارها الاقتصادي وانتعاشها الثقافي والاجتماعي و انخفاض مستوى الحياة لجميع أبنائها. ولهؤلاء المخترقين دون أن يدركوا نقول إنّ الانفتاح والتكامل بين البلدان العربية هما شرطان أساسيان لإرساء أسس لديمقراطيات قابلة للحياة والمنافسة على المستوى العالمي.
ولكن وإلى أن يصبح ذلك ممكناً لا بدّ لنا في هذه المرحلة من الاستفادة من كلّ القوى الحرّة في العالم، والتي هي في أكثر الأحيان أقدر على اتخاذ موقف مساند للحقّ العربيّ والعدالة من بعض العرب الذين آمنوا بالتهم الموجّهة إليهم بأنهم مذنبون وينخرطون في معظم الأحايين بأعمال تهدف إلى تبرئتهم من هذه التهم. ولتلك الشابة، التي لم أحرص أن أتعرّف على اسمها، لأنها نموذج لشريحة مخترقة فكرياً، أقول إنّ بدعة الحديث عن أداء الأنظمة العربية تهدف أولاً وقبل كلّ شيء لمنع الحديث عن فلسطين والفلسطينيين. لا شكّ أنّ هناك عملاً ملحاً على العرب أن يقوموا به لأوطانهم ولصالح أجيالهم ولكن لا بدّ لهذا العمل من أن ينطلق من منظور عربيّ مؤمن بتاريخ العرب وثقافتهم وحضارتهم وقدرتهم على مواجهة التحديات، لكي يستقطب الأحرار في العالم لدعم حقّ العرب في أرضهم وحقّهم في سلام عادل وشامل في الشرق الأوسط يعيد الحقوق إلى أصحابها الشرعيين. ولكن كي يتمّ ذلك لا بدّ من مواجهة الاختراقات العملية، كما هي شبكات التجسس الإسرائيلية، والفكرية، والتي من الأصعب، ولكن من الأهمية بمكان، كشفها ومعالجتها. و لا بدّ من أن تبقى فلسطين دائماً في قلب كلّ عربي و يبقى الحديث عنها و عن الأراضي العربية المحتلة محورنا الأساسي و تبقى العروبة الانتماء الذي لا بديل عنه لنا جميعاً لأنها شرط لا بدّ منه لإحلال الديمقراطية الحقيقية في العالم العربي■
بقلم:د. بثينة شعبان
رأيكم يا جماعه الخير.............
لكم راق تحياتي
تعليق