"الغيرة على الدين" .
روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن لله يغار وإن المؤمن يغار، وغيرة الله أن يأتي العبد ما حَرَّم الله عليه))[1].
والغيرة أنواع: منها الغيرة على الدين ومنها الغيرة على العرض، وبعض الناس تحدث عنده غيرة على غير ذلك كالمال والجاه ونحوها...
والعبد له غيرته على دينه وعرضه...
ونعني بالغيرة على الدين الحمية له والغضب لأجله، والاجتهاد في صيانته ونشره ودفع اعتداء المعتدين عنه، ورد شبة الشانئين والحاقدين...
وقد كان رسولنا صلى الله عليه وسلم لا تأخذه الحمية لأمور الدنيا ولا يغضب لمصالحه الشخصية ولكنه كان يغضب أشد الغضب لأجل الدين... فما انتقم صلى الله عليه وسلم لنفسه في شيء قط ـ كما قالت عائشة رضي الله عنها ـ ولكن إذا انتهكت حرمات الله لم يقم لغضبه شيء، وفي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها: (ما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه في شيء قط إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم بها لله)[2].
وكان صلى الله عليه وسلم إذا رأى أو سمع ما يكرهه الله غضب لذلك وقال فيه ولم يسكت، وقد دخل بيت عائشة فرأى عندها سترًا فيه تصاوير فتلون وجهه وهتكه وقال: ((إن من أشد الناس عذابًا يوم القيامة الذين يصورون هذه الصور)).
ولما شُكي إليه الإمام الذي يطيل بالناس صلاته حتى يتأخر بعضهم عن الصلاة معه غضب واشتد غضبه ووعظ الناس وأمر بالتخفيف...
ولما رأى النخامة في قبلة المسجد تغيظ وحكها وقال: ((إن أحدكم إذا كان في الصلاة فإن الله حيال وجهه فلا يتنخمن حيال وجهه في الصلاة))[3].
وهذا شيء عزيز جدًا... أن يتسامح العبد في حق نفسه، ويغضب لحق الله... ونوقن أن هذا أمر عزيز ونادر، إذا تأملنا أحوالنا, حيث نجد الواقع عكس ذلك، فإذا كان الأمر يمس أشخاصنا وحظوظنا الدنيوية ثار أحدنا وغضب وشتم وتبذل وأخذته الحمية وأخذته العزة بالإثم، وإذا كان الأمر يمس الدين تذرع بالحكمة واللباقة والرفق واختلاف العلماء ولم تفارق البسمة وجهه وهو يسمع ويرى الطعن في الدين أو الانحراف عنه أو تعطيل شرائعه... فلا حول ولا قوة إلا بالله ونعوذ بالله من البرود وفقدان النخوة...
إن المؤمن الصادق غيور على دين الله, ويتعلق بهذه الغيرة، الغيرة على أحكام الدين من التحريف وعلى شرائعه من التعطيل وعلى رجالاته من الطعن والاعتداء والتشويه، وعلى بلاد الإسلام ومقدساته من الغصب والاحتلال، وعلى أهل الإسلام وأعراضهم من العدوان والانتهاك، وجدير بالمسلم أن تكون عنده النخوة والشهامة والغيرة لأجل الدين لاسيما إن كان عربيًا؛ فالعرب عُرفوا بالنخوة والحمية, وقد كانوا يتميزون بذلك قبل بعثة المصطفى صلى الله عليه وسلم ولكن على أسس قبلية وعصبية جاهلية... وتأمل ما رواه أصحاب السير[4] أنه لما قاطعت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم وحوصر في شعب أبي طالب مع أصحابه انحاز معه في الشعب بنو هاشم وبنو المطلب[5] حمية ونخوة له صلى الله عليه وسلم لأنه منهم وإن لم يكونوا جميعًا على دينه... ثم إن هشام بن عمرو بن ربيعة بن الحارث وهو على شركه أخذ يستثير حمية المشركين ممن ترطبهم صلات قبلية برسول الله صلى الله عليه وسلم فذهب إلى زهير بن أمية بن المغيرة مخاطبه خطابًا يثير فيه النخوة فقال له: يا زهير أقد رضيت أن تأكل الطعام وتلبس الثياب وتنكح النساء، وأخوالك حيث علمت لا يباعون ولا يبتاع منهم، ولا ينكحون ولا ينكح إليهم. وما زال هشام بن ربيعة بزهير وبغيره حتى قاموا في نقض الصحيفة الظالمة التي قوطع بمقتضاها بنو هاشم في الشعب[6].
وتأمل طريقتهم في تحريض من قعد عن القتال واستثارة كوامن الرجولة والغيرة فيه، ويظهر هذا فيما رواه ابن إسحاق قال: وحدثني عبد الله بن أبي نجيح أن أمية بن خلف كان أجمع القعود يوم بدر وكان شيخًا جليلاً جسيمًا ثقيلاً، فأتاه عقبة بن أبي معيط وهو جالس في المسجد بين ظهراني قومه بمجمرة يحملها فيها نار ومجمر ـ عود يتبخر به ـ حتى وضعها بين يديه ثم قال: يا أبا علي، استجمر فإنما أنت من النساء، قال: قبحك الله وقبح ما جئت به، قال: ثم تجهز فخرج مع الناس[7].
والمقصود أنه ينبغي لنا أن نستحي أن يكون عند أولئك الضالين تلك النخوة والحمية... ونفقدها نحن أهل الحق[8]... ثم ينبغي لنا أن نستحي مرة أخرى ونحن نطالع أحوال صغار المسلمين وصبيانهم وما عندهم من الحمية للدين ولرسول الله صلى الله عليه وسلم ... فها هما معاذ بن الجموح ومعوذ بن عفراء صبيان صغيران يعاهد كل منهما الآخر ربه ويقول: لا نجوت إن نجا. وعزما على قتل أبي جهل حمية لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان يقوم به أبو جهل من أذاه، وكانا في صف القتال وبينهما رجل كبير من الصحابة فمال عليه كل منهما يسأله: يا عم أين أبو جهل، فقد عاهدت الله لا نجوت إن نجا. فأشار الرجل إليه فعرفاه، فانقض معاذ بن عمرو بن الجموح على رأس الكفر فقطع رجله ثم ضربه معوذ بن عفراء حتى أثبته وتركه وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، حيث أتى ابن مسعود رضي الله عنه فاحترز رأسه[9].
وهكذا كان شأن أهل الإسلام جميعًا في صدر هذه الأمة، لا يطيقون أن يمس رجالات الإسلام بسوء ولا أن يمس دين الله بسوء، هذا أبو بكر رضي الله عنه حين ارتد من ارتد من العرب ومنع من منع منهم الزكاة يقوم قومة قوية لله جل وعلا، ويقسم بالله ليقاتلنهم، وتثير عزيمته الصحابة فتنشرح صدورهم للقتال وتأديب هؤلاء المارقين دون أن يضعفهم موته صلى الله عليه وسلم ، بل هم حراس لهذا الدين من بعده.
وهذا عمر رضي الله عنه كان لا يطيق سماع كلمة خشنة تصدر من أعداء الله من منافقين أو مشركين توجه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما أن يسمع شيئًا من ذلك حتى يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: دعني أضرب عنق هذا المنافق... كما كان رضي الله عنه لا يطيق السكوت على أمر يؤدي إلى شيوع التهتك أو الفاحشة في المسلمين، ولما علم أن رجلاً مخنثًا يدعى نصر بن حجاج يتشبه بالنساء أمر بحلق رأسه ونفيه بعيدًا عن المدينة.
ثم ننتقل عبر القرون فنجد صلاح الدين رحمه الله لا يقر له قرار حين يرى المسجد الأقصى في أسر النصارى، فيحمل الهم ويتقلب ولا ينام، ويقود فرسه وهو مريض يطوف على أهل الإسلام يحرضهم، وتقوست ساقاه من إدامة ركوب الخيل في سبيل الله، وأمضى ربع قرن في منزل متنقل فوق جواده من جهاد إلى جهاد وما خلع لباس الجند فيها إلا مرة واحدة وذلك حين وفاته.
وهذا أحمد بن حنبل رحمه الله حين نشر المأمون قول المعتزلة بخلق القرآن وخاف العلماء وترخصوا وقالوا بقول المأمون وقضائه تقية، إذا بأحمد بن حنبل يثبت ويقوم قومة لله ويحفظ الله بأبي عبد الله عقيدة أهل السنة والجماعة ـ أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق ـ ويتحمل في ذلك القيد والحبس والسوط ثلاثين شهرًا في حبس ضيق لا يستطيع فيه رفع قامته ويصلي وينام ويأكل والقيد في رجله، ويضرب بالسياط حتى يتدلى لحمه[10]... وقد روي عنه أنه قال لابنه: يا بني أعطيت المجهود من نفسي... نعم بذل ما وسعه من جهد وبذل نفسه لله، غيرة على الدين أن ينحرف أو يعبث به العابثون... حتى قال بعضهم: إن الله حفظ هذا الدين بأبي بكر يوم الردة وبالإمام أحمد يوم المحنة، وقيل له يومًا: أتعبت نفسك. قال: راحتها أريد ـ أي في الآخرة ـ. وقال عمر: الراحة للرجال غفلة.. ولا تنبغي الراحة لأهل المروءات.
قال الشافعي رحمه الله: طلب الراحة في الدنيا لا يصح لأهل المروءات فإن أحدهم لم يزل تعبان في كل زمان.
وقيل لأحدهم: متى يجد العبد طعم الراحة؟ قال: عند أول قدم يضعها في الجنة.
وهذا شيخ الإسلام ابن تيمية أيضًا تأخذه الغيرة على الدين في شتى النواحي، فهو يدحض شبهات المنحرفين ويخرس ألسنتهم، فرد على الشيعة وعلى القدرية وعلى الفلاسفة والصوفية، وخاطب قازان ملك التتر خطاب تأديب وتقريع وتهديد، وقاد المسلمين بنفسه في المعارك ضد التتر، وصحح الله به كثيرًا من المفاهيم، ورد به كثيرًا من البدع ومن الأحكام الجاهلية التي سرت في أهل البوادي وغيرهم، فصار بذلك قدوة ومنهلاً عذبًا لجميع دعاة اليوم الصادقين.
وإن الأمة في أشد الحاجة إلى أمثال هؤلاء الرجال الذين تتأجج قلوبهم حمية للدين وغيرة عليه وبذلاً من أجله. وإننا لفي حاجة إلى أن نحاسب أنفسنا: هل قدمنا فعلاً كل ما بوسعنا من أجل هذا الدين.. أم أن قلوبنا بردت ونفوسنا ترهلت.. هل تحمل حقًا هم هذا الدين؟
إننا نستطيع أن نبذل الكثير ولكننا للأسف نبخل ولا نبذل، ونجبن ولا نضحي، ونقدم دنيانا وحظوظ أنفسنا ونغار عليها أكثر مما نغار على دين الله ودعوته.
أسأل الله جل وعلا أن يكون في هذه الكلمات ما يرفعنا لتصحيح أوضاعنا حتى نكون من أولئك الرجال الذين يحملون هم الأمة ويثبتون ولا ينكصون، ولا يملون ولا يسأمون، وحين يوجد هؤلاء الرجال ـ وإن قل عددهم ـ فإن الله جل وعلا ينصرهم لأن هذه القلة المؤمنة الصابرة الواعية المستقيمة ثقيلة في ميزان الله... ومن ثم فسينصرها ولو بعد حين {كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة:21]، {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ، وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171 ـ 173].
والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن لله يغار وإن المؤمن يغار، وغيرة الله أن يأتي العبد ما حَرَّم الله عليه))[1].
والغيرة أنواع: منها الغيرة على الدين ومنها الغيرة على العرض، وبعض الناس تحدث عنده غيرة على غير ذلك كالمال والجاه ونحوها...
والعبد له غيرته على دينه وعرضه...
ونعني بالغيرة على الدين الحمية له والغضب لأجله، والاجتهاد في صيانته ونشره ودفع اعتداء المعتدين عنه، ورد شبة الشانئين والحاقدين...
وقد كان رسولنا صلى الله عليه وسلم لا تأخذه الحمية لأمور الدنيا ولا يغضب لمصالحه الشخصية ولكنه كان يغضب أشد الغضب لأجل الدين... فما انتقم صلى الله عليه وسلم لنفسه في شيء قط ـ كما قالت عائشة رضي الله عنها ـ ولكن إذا انتهكت حرمات الله لم يقم لغضبه شيء، وفي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها: (ما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه في شيء قط إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم بها لله)[2].
وكان صلى الله عليه وسلم إذا رأى أو سمع ما يكرهه الله غضب لذلك وقال فيه ولم يسكت، وقد دخل بيت عائشة فرأى عندها سترًا فيه تصاوير فتلون وجهه وهتكه وقال: ((إن من أشد الناس عذابًا يوم القيامة الذين يصورون هذه الصور)).
ولما شُكي إليه الإمام الذي يطيل بالناس صلاته حتى يتأخر بعضهم عن الصلاة معه غضب واشتد غضبه ووعظ الناس وأمر بالتخفيف...
ولما رأى النخامة في قبلة المسجد تغيظ وحكها وقال: ((إن أحدكم إذا كان في الصلاة فإن الله حيال وجهه فلا يتنخمن حيال وجهه في الصلاة))[3].
وهذا شيء عزيز جدًا... أن يتسامح العبد في حق نفسه، ويغضب لحق الله... ونوقن أن هذا أمر عزيز ونادر، إذا تأملنا أحوالنا, حيث نجد الواقع عكس ذلك، فإذا كان الأمر يمس أشخاصنا وحظوظنا الدنيوية ثار أحدنا وغضب وشتم وتبذل وأخذته الحمية وأخذته العزة بالإثم، وإذا كان الأمر يمس الدين تذرع بالحكمة واللباقة والرفق واختلاف العلماء ولم تفارق البسمة وجهه وهو يسمع ويرى الطعن في الدين أو الانحراف عنه أو تعطيل شرائعه... فلا حول ولا قوة إلا بالله ونعوذ بالله من البرود وفقدان النخوة...
إن المؤمن الصادق غيور على دين الله, ويتعلق بهذه الغيرة، الغيرة على أحكام الدين من التحريف وعلى شرائعه من التعطيل وعلى رجالاته من الطعن والاعتداء والتشويه، وعلى بلاد الإسلام ومقدساته من الغصب والاحتلال، وعلى أهل الإسلام وأعراضهم من العدوان والانتهاك، وجدير بالمسلم أن تكون عنده النخوة والشهامة والغيرة لأجل الدين لاسيما إن كان عربيًا؛ فالعرب عُرفوا بالنخوة والحمية, وقد كانوا يتميزون بذلك قبل بعثة المصطفى صلى الله عليه وسلم ولكن على أسس قبلية وعصبية جاهلية... وتأمل ما رواه أصحاب السير[4] أنه لما قاطعت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم وحوصر في شعب أبي طالب مع أصحابه انحاز معه في الشعب بنو هاشم وبنو المطلب[5] حمية ونخوة له صلى الله عليه وسلم لأنه منهم وإن لم يكونوا جميعًا على دينه... ثم إن هشام بن عمرو بن ربيعة بن الحارث وهو على شركه أخذ يستثير حمية المشركين ممن ترطبهم صلات قبلية برسول الله صلى الله عليه وسلم فذهب إلى زهير بن أمية بن المغيرة مخاطبه خطابًا يثير فيه النخوة فقال له: يا زهير أقد رضيت أن تأكل الطعام وتلبس الثياب وتنكح النساء، وأخوالك حيث علمت لا يباعون ولا يبتاع منهم، ولا ينكحون ولا ينكح إليهم. وما زال هشام بن ربيعة بزهير وبغيره حتى قاموا في نقض الصحيفة الظالمة التي قوطع بمقتضاها بنو هاشم في الشعب[6].
وتأمل طريقتهم في تحريض من قعد عن القتال واستثارة كوامن الرجولة والغيرة فيه، ويظهر هذا فيما رواه ابن إسحاق قال: وحدثني عبد الله بن أبي نجيح أن أمية بن خلف كان أجمع القعود يوم بدر وكان شيخًا جليلاً جسيمًا ثقيلاً، فأتاه عقبة بن أبي معيط وهو جالس في المسجد بين ظهراني قومه بمجمرة يحملها فيها نار ومجمر ـ عود يتبخر به ـ حتى وضعها بين يديه ثم قال: يا أبا علي، استجمر فإنما أنت من النساء، قال: قبحك الله وقبح ما جئت به، قال: ثم تجهز فخرج مع الناس[7].
والمقصود أنه ينبغي لنا أن نستحي أن يكون عند أولئك الضالين تلك النخوة والحمية... ونفقدها نحن أهل الحق[8]... ثم ينبغي لنا أن نستحي مرة أخرى ونحن نطالع أحوال صغار المسلمين وصبيانهم وما عندهم من الحمية للدين ولرسول الله صلى الله عليه وسلم ... فها هما معاذ بن الجموح ومعوذ بن عفراء صبيان صغيران يعاهد كل منهما الآخر ربه ويقول: لا نجوت إن نجا. وعزما على قتل أبي جهل حمية لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان يقوم به أبو جهل من أذاه، وكانا في صف القتال وبينهما رجل كبير من الصحابة فمال عليه كل منهما يسأله: يا عم أين أبو جهل، فقد عاهدت الله لا نجوت إن نجا. فأشار الرجل إليه فعرفاه، فانقض معاذ بن عمرو بن الجموح على رأس الكفر فقطع رجله ثم ضربه معوذ بن عفراء حتى أثبته وتركه وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، حيث أتى ابن مسعود رضي الله عنه فاحترز رأسه[9].
وهكذا كان شأن أهل الإسلام جميعًا في صدر هذه الأمة، لا يطيقون أن يمس رجالات الإسلام بسوء ولا أن يمس دين الله بسوء، هذا أبو بكر رضي الله عنه حين ارتد من ارتد من العرب ومنع من منع منهم الزكاة يقوم قومة قوية لله جل وعلا، ويقسم بالله ليقاتلنهم، وتثير عزيمته الصحابة فتنشرح صدورهم للقتال وتأديب هؤلاء المارقين دون أن يضعفهم موته صلى الله عليه وسلم ، بل هم حراس لهذا الدين من بعده.
وهذا عمر رضي الله عنه كان لا يطيق سماع كلمة خشنة تصدر من أعداء الله من منافقين أو مشركين توجه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما أن يسمع شيئًا من ذلك حتى يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: دعني أضرب عنق هذا المنافق... كما كان رضي الله عنه لا يطيق السكوت على أمر يؤدي إلى شيوع التهتك أو الفاحشة في المسلمين، ولما علم أن رجلاً مخنثًا يدعى نصر بن حجاج يتشبه بالنساء أمر بحلق رأسه ونفيه بعيدًا عن المدينة.
ثم ننتقل عبر القرون فنجد صلاح الدين رحمه الله لا يقر له قرار حين يرى المسجد الأقصى في أسر النصارى، فيحمل الهم ويتقلب ولا ينام، ويقود فرسه وهو مريض يطوف على أهل الإسلام يحرضهم، وتقوست ساقاه من إدامة ركوب الخيل في سبيل الله، وأمضى ربع قرن في منزل متنقل فوق جواده من جهاد إلى جهاد وما خلع لباس الجند فيها إلا مرة واحدة وذلك حين وفاته.
وهذا أحمد بن حنبل رحمه الله حين نشر المأمون قول المعتزلة بخلق القرآن وخاف العلماء وترخصوا وقالوا بقول المأمون وقضائه تقية، إذا بأحمد بن حنبل يثبت ويقوم قومة لله ويحفظ الله بأبي عبد الله عقيدة أهل السنة والجماعة ـ أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق ـ ويتحمل في ذلك القيد والحبس والسوط ثلاثين شهرًا في حبس ضيق لا يستطيع فيه رفع قامته ويصلي وينام ويأكل والقيد في رجله، ويضرب بالسياط حتى يتدلى لحمه[10]... وقد روي عنه أنه قال لابنه: يا بني أعطيت المجهود من نفسي... نعم بذل ما وسعه من جهد وبذل نفسه لله، غيرة على الدين أن ينحرف أو يعبث به العابثون... حتى قال بعضهم: إن الله حفظ هذا الدين بأبي بكر يوم الردة وبالإمام أحمد يوم المحنة، وقيل له يومًا: أتعبت نفسك. قال: راحتها أريد ـ أي في الآخرة ـ. وقال عمر: الراحة للرجال غفلة.. ولا تنبغي الراحة لأهل المروءات.
قال الشافعي رحمه الله: طلب الراحة في الدنيا لا يصح لأهل المروءات فإن أحدهم لم يزل تعبان في كل زمان.
وقيل لأحدهم: متى يجد العبد طعم الراحة؟ قال: عند أول قدم يضعها في الجنة.
وهذا شيخ الإسلام ابن تيمية أيضًا تأخذه الغيرة على الدين في شتى النواحي، فهو يدحض شبهات المنحرفين ويخرس ألسنتهم، فرد على الشيعة وعلى القدرية وعلى الفلاسفة والصوفية، وخاطب قازان ملك التتر خطاب تأديب وتقريع وتهديد، وقاد المسلمين بنفسه في المعارك ضد التتر، وصحح الله به كثيرًا من المفاهيم، ورد به كثيرًا من البدع ومن الأحكام الجاهلية التي سرت في أهل البوادي وغيرهم، فصار بذلك قدوة ومنهلاً عذبًا لجميع دعاة اليوم الصادقين.
وإن الأمة في أشد الحاجة إلى أمثال هؤلاء الرجال الذين تتأجج قلوبهم حمية للدين وغيرة عليه وبذلاً من أجله. وإننا لفي حاجة إلى أن نحاسب أنفسنا: هل قدمنا فعلاً كل ما بوسعنا من أجل هذا الدين.. أم أن قلوبنا بردت ونفوسنا ترهلت.. هل تحمل حقًا هم هذا الدين؟
إننا نستطيع أن نبذل الكثير ولكننا للأسف نبخل ولا نبذل، ونجبن ولا نضحي، ونقدم دنيانا وحظوظ أنفسنا ونغار عليها أكثر مما نغار على دين الله ودعوته.
أسأل الله جل وعلا أن يكون في هذه الكلمات ما يرفعنا لتصحيح أوضاعنا حتى نكون من أولئك الرجال الذين يحملون هم الأمة ويثبتون ولا ينكصون، ولا يملون ولا يسأمون، وحين يوجد هؤلاء الرجال ـ وإن قل عددهم ـ فإن الله جل وعلا ينصرهم لأن هذه القلة المؤمنة الصابرة الواعية المستقيمة ثقيلة في ميزان الله... ومن ثم فسينصرها ولو بعد حين {كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة:21]، {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ، وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171 ـ 173].
والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
تعليق